السهام تتطاير، وحمر الوحش تنفر، والظباء تفر خفيفة رشيقة، والفتى الفارس إبراهيم يفتك بكل ما يعترضه منها فلا يفلت منه صيد. وأسكرته نشوة المطاردة وأخذته لذة الظفر، فأبتعد عن حاشيته وتوغل في الغاب متأثراً صيداً ثميناً، حتى إذا أقترب منه وقوق إليه سهمه، وقبل أن يطلقه عليه ليرديه قتيلاً، سمع هاتفً وجف له قلبه وارتعدت له فرائصه، يهتف به قائلاً:
(يا إبراهيم! ما لهذا خلقت ولا به أمرت) فتفت حوله وجال ببصره ذات اليمين وذات اليسار فلم يجد أحداً، فهم السير يبغي صيده الفار، ولكنه سمع الصوت مرة أخرى، فتوقف عن السير وسرح طرفه في الفضاء ليرى ذلك المتطفل الجريء، ولكن لم يقع نظره على أحد فعجب لذلك وأمتزج عجبه بالخوف.
ولما صمت الصوت ظن أن سمعه قد خدعه، فأرخى عنان فرسه وهم بمعاودة المطاردة. وما كاد يتحرك حتى سمع المنادي يقول:(يا إبراهيم؟ ما هذا العبث (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)) فردد إبراهيم النداء في ذهول مما سمع بعد أن تردد هذا النداء في جوانب الغابة، وتجاوب في فؤاده كما تجاوبت في الفضاء أصداؤه، وأعاده بعد أن تنبه من ذهوله، فإذا هو أنشودة عذبة ونغم شجي، ولحن عوي أيقظ في هذا القلب الغافل السر القدسي الذي يخص الله به عباده المؤمنين، وفتح مغاليق هذه النفس الساودة في الغي والضلال، فرأت بعين البصيرة جمال الإيمان.
ما أحلى هذا النداء الجميل، والإنذار الرقيق:(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً. .)
لا أننا لم نخلق عبثاً، ولم نوهب هذه العقول العظيمة والقلوب الكبيرة لنعيش بها لاهين عابثين، فهذه العقول إنما وهبناها لنلتمس بها عظمة الخالق عزته وسلطانه، وهذه القلوب إنما أعطيناها لتستقر فيها معاني الرحمة والحب والسلام؛ ولنطير بها إلى ملكوت الله شوقاً وطرباً وإيماناً ففي الإيمان راحة وسلام، وفي الحب الرباني سعادة وحياة. .
وأفاق إبراهيم من ذهوله على حوافر فرسه تضرب الأرض يستحث الفارس الذي يمتطيه إلى متابعة الصيد النافر، ولكن إبراهيم أجاب جواده هذا بجواب مختلف عن سوابقه، فلم يرخ له العنان ليتابع المطاردة، بل أجابه قائلاً: لقد انتهى ذلك العهد فقد جاءني نذير من رب العالمين. ثم لوى عنانه ليعود، فأنطلق به كالسهم؛ ولكن إبراهيم خفف من سرعته