ولسان حاله يقول: لم نعد في حاجة إلى الإسراع، فالذي تقصد موجود أينما توجهنا وحيثما حللنا. أينما تولوا فثم وجه الله، أنه واسع عليم. حتى إذا وصل إلى أصحابه ورأوه يسير على مهل وقد عودهم أن يروه منطلقاً كالسهم يسابق الريح، هم أحدهم بسؤاله؛ ولكنه لمح في عينيه بريقاً آخر وفي وجه إمارات لم يعهدها من قبل. ثم ترجل عن فرسه الحبيب وربت على ظهره في رفق وحنان ومسح بيده عليه ليطوي التاريخ صحيفة من صفحات اللهو والمغامرة، ولينشر صفحة من الزهد والتقوى والرضا والقناعة، صفحات تشرق بالنور القدسي الجليل. . . ثم أتجه إلى أحبابه وسماره وأصدقائه وخلانه فودعهم. وسار يضرب في فجاج الأرض مجاهداً صابراً، فلقي في طريقه راعي غنم أخذ منه جبة وكساء وأعطاه ثيابه. ثم أعترضه خارج بلخ جبل فصعده، وكأنما يقول له: يا إبراهيم وطن نفسك على المشاق فكم في طريقك من جبال أصعب مني مرتقى وأقسى مني صلابة، حتى إذا وصل إلى مكان فيه كان التعب قد أخذ منه مأخذاً كبيراً فمال يبغي الجلوس في جوار حجر كبير، فرأى مكتوباً على الحجر:
كل حي وإن بقى ... فمن العيش يستقى
فأعمل اليوم وأجتهد ... وأحذر الموت يا شقي
وبينما هو واقف يقرأ ويبكي أحس يدا رفيقة توضع على كتفه، فالتفت، فإذا رجل أغبر، فسلم الرجل عليه.
وقال له: مم تبكي؟ فال إبراهيم، من هذا وأشار إلى المكتوب، فأخذ الرجل بيده ومضى به إلى صخرة كبيرة.
وقال له: اقرأ، ثم قام يصلي، فقرأ إبراهيم على جانب من الصخرة.
لا تبغين جاها وجاهك ساقط ... عند المليك وكن لجاهك مصلحي
وعلى الجانب الآخر:
من لم يثق بالقضاء والقدر ... لاقى أمورا كثيرة الضرر
وفي أسفلها:
إنما الفوز والغنى ... في تقى الله والعمل
فلما فرغ إبراهيم من القراءة التفت فلم يجد للرجل أثرا، فما درى هل أنصرف أو أين