ذهب. وسار إبراهيم يطوف في الأرض ترفعه رابية ويخفضه سهل، يبيت على الطوى أياماً لا يذوق فيها الطعام إلا إذا أصابه من عمل يده ووصل إليه يعرق جبينه، فكان يشتغل فاعلا أو حارساً أو حطابا، ثم يشتري الطعام فيطعمه أصحابه وهو صائم قانع بطعام المحبة ناعم باللذة العظمى، لذة الاطمئنان والإيمان. فإذا أفطر أكل من رديء الطعام وحرم نفسه طيب المطعم، ليبر به الناس ويشبع به جائعي البطون تأليفاً لهم وتحبيباً وتودداً إليهم وتقربا إلى ربه، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: عندما سأله رجل أن يدله على عمل يحببه إلى الله وإلى قلوب الناس، فقال له عليه السلام:(إذ أردت أن يحبك الله فابغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما كان عندك من فضولها فأنبذه إليهم).
ومرت السنون وإبراهيم هائم في حب الله يمسي في بلد ويصبح في آخر، يتلقى العلم من لدن حكيم عليم، ويشرب من كأس المحبة والصفاء، فترتوي نفسه ويأنس قلبه بنور ربة. وقد وهبه الله المعرفة وطوى له بساط الأرض؛ فيما تراه اليوم في بيت المقدس تسمع عنه ذلك في دمشق أو غيرها من البلدان المتباعدة.
حكى أبن عساكر قال: بينما أنا ببلخ إذا شيخ وقور حسن الهيئة جميل الطلعة أخذ منظره بمجامع قلبي فدعوته إلى الطعام فأتى، فقلت: من أين أقبلت؟ قال: من وراء النهر. قلت وأين تريد؟ قال: الحج. قلت في هذا الوقت؟. وقد كان أول يوم من ذي الحجة أو ثانيه، فقال: يفعل الله ما يشاء. فقلت: الصحبة. قال: إن أحببت ذلك فموعدك الليل، فلما كان الليل جاءني فقال: قم باسم الله. فأخذت ثياب سفري، وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا، ونحن نمر على البلدان، ونقول هذه فلانة وهذه فلانة، فإذا كان الصباح فارقني، وقال: موعدك الليل، فإذا كان الليل جاءني ففعل مثل ذلك فانتهينا إلى مدنية الرسول، ثم سرنا إلى مكة فجئناها ليلا، فقضينا الحج مع الناس ثم رجعنا إلى الشام فزرنا بيت المقدس. وقال إني عازم على الإقامة بالشام. فرجعت أنا إلى بلدي بلخ.