تلحق الشهوات في هذا الترتيب بالحد الخارج عن العقل، وهذا الحد هو أول الجنون، كما يشاهد في ذهاب أثر العقل وضعف حكمه عند (تزيين شهوة محبوبة) بحيث لا يبقى للعقل حكم ولا حكمة مع هذا التزيين!
وجعلت (زين) مبنية للمجهول لأن بعض هذا محبوب محمود فهو من زينة الله ويدخل في قوله تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) وبعضه مذموم مكروه فهو من تزيين الغرائز الفاسدة، وبعضه حمق وجنون فهو من تزيين الشيطان.
والغرض من الآية تجاوز الحد المعقول من شهوات الدنيا، فإن تجاوزه يجعل الدنيا هي الغاية، ومع أنها وسيلة فقط، ولهذا قال (ذلك متاع الحياة الدنيا) ثم أنه قال (حب الشهوات) بالجمع، ولم يقل الشهوة فتكون (الشهوات) مختلفة متباينة تقدر كل واحدة باعتبارها الخاص في الأصناف التي وردت في الآية، فالشهوة للنساء غيرها من البنين، وهذه غيرها من المال، وهذه غيرها من الخيل المسومة الخ فكل واحدة ذات شأن خاص في النفس كما هو مشاهد، ولكن الجنون بها كلها متى (زين حبها في النفس) شيء واحد.
وانظر الحكمة العجيبة في الترتيب. فالنساء شهوات من الغريزة والعاطفة، والبنين شهوات من العاطفة والنفس، والمال الكثير من النفس فقط، والخيل المسومة والأنعام والحرث؛ هذه الثلاثة تارة جزاء من المال، وتارة جزاء من عاطفة النفس كما يغرم بالخيل بعض الناس أو بالأنعام أو بالزراعة، ولذلك جاءت في الآية بعد النساء والبنين لأنها لاحقة بالغريزة والعاطفة والنفس.
ويدخل في الخيل المسومة كل ما يقتنى للمباهاة والزينة أو لأغراض القوة على إطلاقها ومنه السيارات والطيارات الخ. ويدخل في الأنعام كل ما يقتنى للتجارة والكسب، وفي الحرث كل ما يقتنى للأعمال والإيجاد ومنه المصانع والمعامل الخ، فإذا حققنا هذا وجدنا هذه الأبواب جامعة لكل الشهوات الناشئة من جميع قوى الجسم الإنساني والنفس الإنسانية.
أما ما كان خاصاً بشهوات العقل فلا يدخل في الآية، وهذا من أعجب إعجازها، لأن أمور العلوم والفنون (لا تزين) إلا لفريق محدود من لناس، أي لا يزين حب الشهوات منها، وهذا الفريق عادة هم النوابغ العبقريون، وهؤلاء العبقريون في الحقيقة لا يجدون من العلوم والفنون (متاع الحياة الدنيا) ولكن مصائب الحياة الدنيا. . .