منها إلى التعليم العالي، وظناً منا أنه بذلك يناهض الجامعة، ويقضي عليها وهي لا تزال في مهدها.
وغلب على وهم عميد الاحتلال أنه يتمتع بتأييد (أصحاب الجلابيب الزرقاء)، لكن سرعان ما تبدد هذا الادعاء المصطنع على أثر حادثة دنشواي صيف ١٩٠٦، تلك الحادثة التي وجد منها مصطفى كامل مادة غزيرة يروي بها زناد جهاده في الأوساط الأوربية، ضد الإنجليز في مصر، فاستطاع الرأي العالمي أن يقف على حقيقة الاحتلال كما يعرضها زعيم الشباب كاتبا وخطيبا من غير تزويق أو تحامل وحسبه أن يعبر في صدق عما يعتلج في نفوس المواطنين من بغض لشراذم البغي والعدوان الذين يتجرون بالشعور على مسرح السياسة.
وبدأ النفوذ البريطاني يتزعزع، وظله يتقلص في غير إبطاء تحت هذه الضربات القوية التي يسددها فتى النيل المجاهد سهاما من نار، حتى أن السياسة الإنجليزية قد أدركت هذه الحقيقة مجسمة بحيث لا تقبل التحوير والتأويل مما دعا إلى ابتداع لون جديد لمعاملة المصريين بالحسنى، على أساس التوسع في سلطة الوزراء، وفك الأغلال شيئا ما، حتى يقال فيما يقال، أن الإنجليز يأخذون بيد الشعوب تدريجيا إلى أن تحكم نفسها بنفسها.
وما كانت هذه البدعة الإنجليزية لتجعل المصريين ينسون جراحات الأمس القريب، ولا لتصرفهم عن هامات دنشواي التي تصيح حول المشانق في كل صبح ومساء: اسقوني اسقوني، بل كانت أصداء مصطفى كامل تجيش بها نفوسهم، وتخفق أفئدتهم فأخذت الحيوية تدب في المصريين، فتألفت لجنة لتكريم هذا الشاب الذي رفع لواء مصر خفاقا في المحافل الأوروبية، مندداً بالاستعمار وأصحابه، والاحتلال وأسبابه، واجتمع الرأي على تقديم هدية له في حفل كبير، لقاء ما أدى للوطن من عمل يذكر فيشكر.
وعلم بذلك مصطفى كامل، فبادر بالكتابة إلى زميله محمد فريد بتاريخ ٢٤ سبتمبر سنة ١٩٠٦، وفي هذا الخطاب المفعم بالوطنية الصادقة، يعتذر عن إقامة هذا الحفل، شاكراً للجنة صنيعها، وتقديرها لجهوده في رفع لواء الوطن الذي يتآمر عليه أعداؤه في حين (أننا نطلب الحياة والدستور والحرية والعقل والروية، ونسعى إلى إسعاد وطننا بالعلم والجهاد القانوني) ويستطرد قائلا: فخير هدية أقترح عليكم تقديمها للوطن العزيز، والأمة المصرية