أقطع مؤكداً أن شاعراً غيره لابد أن يحور كل التحوير أو بعض التحوير في هذا المتاع الخاص بابن الدمينة لو أراد أن يظهرنا على ما يلقاه المحب من عنت وإرهاق وما يعترضه من صعاب في سبيل حبه.
ثم أن أبن الدمية نظم ألفاظه التي اختارها تعبر عما يريد نظماً خاصاً، ليؤكد هذه العقاب والمصاعب، وليرى لنفسه حق نستعطاف هذه التي تكلفه العقاب والمصاعب. فأنت ترى أنه بدأ كل بيت بضمير المخاطبة، وابتع هذا الضمير اسم الموصول للمؤنث، وفي البيتين الأولين أتبع اسم الموصول فعلاً مضعف العين - كل هذا ليكرر الإسناد الذي يدل على التأكيد. ثم أنظر في البيت الثاني إلى التمييز الذي استتم به الشطر الأول منه، وفي البيت الثالث إلى قوله (احفظت قومي) مضافاً إلى الضمير واسم الموصول تجد أن هذا الفعل كالزمردة المسحورة التي تكشف لنا عن احتدام قلوب القوم غيظاً وكراهية لهذا المحب المظلوم.
وما أخالك إلا قد استجاب حسك لهذه المقابلة السنية بين هذا الذي كلف دلج السرى وجون القطا الجثوم بالجلهتين، بين هذا المحب الأواب إلى ذكرى الحبيب ودياره وهذه القطا الآمنة الجاثمة في مكانها الدفيء. ثم لا أخالك أيضاً إلا استجاب حسك لهذا القلب الذي أصيب ويصاب كل يوم فهو كليم. وأ لست ترى صدود القوم وإشاحتهم عن أبن الدمينة كلما ألم ينادي قومه أو تجول في أحيائهم! وأ لست ترى هذا الغيظ الذي ترتسم سيماه على الوجوه وألست ترى هؤلاء القوم المحفظين يصبرون أنفسهم على سفه أبن الدمينة هذا!
كل هذا في عاطفة خاصة هذه العاطفة الخاصة ليست غاضبة على المحبوب إنما عي عاتبة عليه، وليست تقابل غيظ القوم بغيظ مثله لأنها واجدة لهم عذراً، وليست ترى في هذه الآلام إلا نوعاً من القربان يتزلف به المحب إلى من أحب لعله يرضى!
وهذه الأبيات الثلاثة تنشر لي صوراً من ماضي الذي انطوى وما إلى عوده من سبيل، صوراً لا أستطيع أن أعبر عنها في هذه السطور المعجلة - يوم كنت شاباً في أول خطوات الشباب أعب من معين الطبيعة أطرافاً من النهار وزلفاً من الليل، وأنصت إلى دقات الليل العميق يبارك أبناء الطبيعة الهجود - أرى على صفحة الأفق أبن الدمينة هذا متخذاً سمته إلى ديار حبيبته، وقد أبيض الأفق الشرقي إيذاناً بانبلاج الفجر الجديد.