وما على قوم كعب أن نوازنه ... فربما وازن الدر المثاقيل
فما تقدم نرى أن البوصيري أطلق على قصيدته اسم (البردة) ولم يرد منه سوى المعنى المجازي.
وللبردة اسم آخر وهو (البرءة) وذلك لأن البوصيري في زعمهم برئ بها من علته ولو ألقينا نظرة على هذه القصيدة لما وجدنا الشاعر قد ذكر علته ولا أشار إلى إصابته بمرض معين إشارة قريبة أو بعيدة ولم يتوسل إلى الله أن يشفيه من مرض أصابه ولا من داء ألم به.
فهذه التسمية مبنية على قصة مرض البوصيري بالفالج ورؤيته للنبي وشفائه عقب هذه الرؤية، وقد سبق أن ناقشنا هذه الروايات وفندناها. وكل ما يمكننا أن نقوله هو أن البوصيري ربما نظم هذه القصيدة عقب شفائه من الكسر الذي أصابه. وفي هذه الحالة يعوزنا الدليل على ما نقول.
وعلى ذلك فالأقرب إلى العقل والمنطق أن البوصيري رأى قوماً متجهين إلى الحجاز فتذكر رحلته فأنشأ هذه القصيدة وبدأها بقوله: أمن تذك جيران بذي سلم. . . الخ فإذا اقتنعنا بذلك أمكننا أن نقول أن إطلاق أسم (البرءة) على هذه القصيدة هو من وضع الرواة واختراع القصاص.
وقد سميت كذلك بقصيدة (الشدائد) وذلك لأنها في زعمهم تقرأ لتفريج الشدائد وتسير كل أمر عسير وهذا وهو باطل واعتقاد فاسد. وما البردة إلا قصيدة كغيرها من آلاف القصائد التي مدح بها الرسول. وليت شعري أي شيء في هذه القصيدة يشفي من الأمراض ويجلب الرزق ويذهب بالشدائد أهو البكاء على جيران بذي سلم وكاظمة وأضم والبان والعلم؟ أم ذكر إرتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان وسجو الأشجار، وهذا كله من الأساطير والخرافات؟ وفضلا عن ذلك فإن البوصيري ذكر هذه الخوارق في قصائد أخرى كما ذكرها غيره ممن مدحوا الرسول. فلم انفردت أبيات البوصيري في هذا المقام بشفاء المرض وتفريج الشدائد دون غيرها؟
أما التكلم عن جهاد الصحابة فهذا مذكور في كثير من كتب التاريخ، ولا يعقل أن الشعر الذي يشير إلى هذا الجهاد يشفي مرضاً أو يجلب رزقاً.