ولا يأتون البأس إلا قليلاً، أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت).
ويحد في الزرع وقد نبت ضئيلا ضعيفاً ثم لا يلبث ساقه أن يقوى، بما ينبت حوله من البراعم، فيشتد بها ساعده، ويغلط، حتى يصبح بهجة الزارع وموضع إعجابه، يجد في ذلك صورة شديدة المجاورة لصورة أصحاب محمد، فقد بدءوا قلة ضعافاً ثم أخذوا في الكثرة والنماء، حتى اشتد ساعدهم، وقوى عضدهم، وصاروا قوة تملأ قلب محمد بهجة، وقلب الكفار حقدا وغيظاً، فقال:(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم،. . . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) ويجد في أعجاز النخل المنقعر المقتلع عن مغرسه، وفي الهشيم الضعيف الذواي، صورة قريبة من صور هؤلاء الصرعى، قد أرسلت عليهم ريح صرصر تنزعهم عن أماكنهم فألقوا على الأرض مصرعين هنا وهناك، فيقول:(إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، تنزع الناس، كأنهم أعجاز نخل منقعر) ويقول: (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة، فكانوا كهشم المحتظر).
فأنت في هذا تراه يتخذ الطبيعة ميداناً يقتبس منها صور تشبيهاته، من نباتها وحيوانها وجمادها، فما اتخذ مشبها به من نبات الأرض العرجون، وأعجاز النخل، والعصف المأكول، والشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، والحبة تنبت سبع سنابل، وهشيم المحتضر، والزرع الذي أخرج شطأه، ومما اتخذ مشبها به من حيوانها الإنسان في أحوال مختلفة والعنكبوت والحمار، والكلب، والفراش، والجراد، والجمال، والأنعام. ومما اتخذ مشبها به من جمادها العهن المنفوش، والصيب، والجبال، والحجارة، والرماد، والياقوت، والمرجان، والخشب. ومن ذلك ترى أن القرآن لا يعني بنفاسة المشبه به، وإنما يعني العناية كلها باقتراب الصورتين في النفس، وشدة وضوحها وتأثيرها.
هذا ولا يعكر على ما ذكرناه من استمداد القرآن عناصر التشبيه من الطبيعة ما جاء فيه من تشبيه نور الله بمبصاح وصفه بأنه في زجاجة كأنها كوكب دري، لأن هذا المصباح قد تغير وتحول؛ فإن المراد تشبيه نور الله بالمصباح القوي، والمصباح باق ما بقي الإنسان في حاجة إلى نور يبدد به ظلام الليل.