للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ومن خصائص التشبيه القرآني، أنه ليس عنصراً إضافياً في الجملة، ولكنه جزء أساسي لا يتم المعنى بدونه، وإذا سقط من الجملة انهار المعنى من أساسه، فعمله في الجملة أنه يعطي الفكرة في صورة واضحة مؤثرة، فهو لا يمضي إلى التشبيه كأنما هو عمل مقصود لذاته، ولكن التشبيه يأتي ضرورة في الجملة، يتطلبه المعنى ليصبح واضحاً قويا، وتأمل قوله تعالي: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، تجد فكرة عدم سماعهم الحق وأنهم لا ينطقون به، ولا ينظرون إلى الأدلة التي تهدي إليه، إنما نقلها إليك التشبيه في صورة قوية مؤثرة، كما تدرك شدة الفزع والرهبة التي ألمت بهؤلاء الذين دعوا إلى الجهاد، فلم يدفعهم إيمانهم إليه في رضا وتسليم، بل ملأ الخوف نفوسهم من أن يكون الموت مصيرهم، تدرك ذلك من قوله سبحانه (يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون). وتفهم اضطراب المرأة وقلقها، وعدم استقرارها على حال، حتى لتصبح حياتها مليئة بالتعب والعناء - من قوله سبحانه: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل، فتذروها كالمعلقة). وتفهم مدى حب المشركين لآلهتهم من قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله). وهكذا تجد للتشبيه مكانه في نقل الفكرة وتصويرها، وقل أن يأتي التشبيه في القرآن بعد أن تتضح الفكرة نوع وضوح كما في قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) وإذا أنت تدبرت أسلوب الآية الكريمة وجدت هذا التعبير أقوى من أن يقال: وإذ صار الجبل كأنه ظلة لما في كلمة نتق من تصوير أن انتزع الجبل من الأرض تصويراً يوحي إلى النفس بالرهبة والفزع، ولما في كلمة فوقهم من زيادة هذا التصوير المفزع وتأكيده في النفس، وذلك كله يمهد للتشبيه خير تمهيد، حتى إذا جاء مكن للصورة في النفس، ووطد من أركانها. ومع ذلك ليس التشبيه في الآية عملاً إضافياً بل فيه إتمام المعنى وإكماله، فهو يوحي بالإحاطة بهم، وشمولهم، والقرب منهم قرب الظلة من المستظل بها، وفي ذلك ما يوحي بخوف سقوطه عليهم.

ومن خصائص التشبيه القرآني دقته، فهو يصف ويقيد حتى تصبح الصورة دقيقة واضحة أخاذة، وخذ مثلاً لذلك قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) فقد

<<  <  ج:
ص:  >  >>