يتراءى أنه يكفي في التشبيه أن يقال: مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل، ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقاً والتحاماً حين يقرن بين هؤلاء وقد حملوا التوراة، فلم ينتفعوا بما فيها وبين الحمار يحمل أسفار العلم ولا يدري مما ضمته شيئاً، فتمام الصورتين يأتي من هذا القيد الذي جعل الصلة بينهما قوية وثيقة.
وقوله تعالى:(فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) فربما بدا أنه يكفي في تصوير إعراضهم بأنهم كالحمير، ولكنه في دقته لا يكتفي بذلك، فهو يريد أن يصور نفرتهم من الدعوة، وإسراعهم في إبعاد أنفسهم عنها، إسراعاً يمضون فيه على غير هدى، فوصف الحمر بأنها مستنفرة تحمل نفسها على الهرب وتحثها عليه يزيد في هربها وفرارها أسد هصور يجري خلفها، فهي تتفرق في كل مكان، وتجري غير مهتدية في جريها , أو لا ترى في صورة هذه الحمر وهي تجد في هربها لا تلوي على شيء تبغي الفرار من أسد يجري وراءها، ما ينقل إليك صورة هؤلاء القوم معرضين عن التذكرة فارين أمام الدعوة لا يلوون على شيء، سائرين على غير هدى، ثم ألا تبعث فيك هذه الصورة الهزء بهم والسخرية؟.
ومن ذلك وصفه الخشب بأنها مسندة في قوله تعالى:(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة) فهي ليست خشباً قائمة في أشجارها لما قد يكون لها من جمال في ذلك الوضع، وليست موضوعة في جدار، لأنها حينئذ تؤدي عملاً، وتشعر بمدى فائدتها، وليست متخذاً منها أبواب ونوافذ لما فيها من الحسن والزخرف والجمال، ولكنها خشب مسندة قد خلت من الجمال، وتوحي بالغفلة والاستسلام والبلاهة.
ولم يكتف في تشبيه الجبال يوم القيامة بالعهن، بل وصفه بالمنفوش إذ قال:(وتكون الجبال كالعهن المنفوش)، للدقة في تصوير هشاشة الجبال، كما لم يكتف في تشبيه الناس يخرجون يوم القيامة بأنهم كالجراد بل وصفه بالمنتشر، فقال:(يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر)، حتى يكون دقيقاً في تصوير هذه الجموع الحاشدة خارجة من أجداثها منتشرة في كل مكان تملأ الأفق، ولا يتم هذا التصوير إلا بهذا الوصف الكاشف.
ومن خصائص التشبيه القرآني المقدرة الفائقة في اختياره ألفاظه الدقيقة المصورة الموحية، تجد ذلك في كل تشبيه قرآني، وحسبي أن أشير هنا إلى بعض أمثلة هذا الاختيار.