المعرفة تألم للقلب، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى، انبعثت من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل).
ثم يقول في موضع آخر:(أن اللذة تابعة للادراكات. والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة، ولذتها في نيلها لمقتضى طبعها الذي خلقت له فإن هذه الغرائز ما ركبت في الإنسان عبثاً، بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور وهو مقتضاها بالطبع. فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام، فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو مقتضى طبعها. وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الأبصار والاستماع والشم فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها).
نرى في قول الإمام الغزالي هذا صورة واضحة الأجزاء دقيقة التركيب متناسبة لأقسام تطابق في وضوح أجزائها ودقة تركيبها وتناسب أقسامها، الصورة التي رسمها علم النفس للوجدان تمام التطابق. فقد عرف الغزالي هذه العلاقة الدقيقة العجيبة بين المعرفة والوجدان والنزوع، وعرف أن العلم أو الإيمان أو اليقين يثير الوجدان وأن هذا الوجدان قد يكون لذة وقد يكون ألماً وأن اللذة تجلب والألم يدفع وأن هذا الجلب وهذا الدفع هما النزوع، وأن هذا النزوع هو الإيجابية والسلبية في السلوك وأن بين طيات هذه السلبية وهذه الإيجابية السلوك العادي والسلوك الشاذ.
بل في هذين السلوكين الخير والشر والفضيلة والرذيلة والقوة والضعف والشجاعة والجبن، بل في هذين السلوكين كل تاريخ البشرية من أقصى أزمنة التاريخ إلى أن تبيد الأرض ومن عليها.
هذا هو الوجدان أو الحال عند الغزالي. هو اللذة أو الألم يصحب الإدراك أو المعرفة أو العلم أو يصحب النزوع أو الإرادة أو العمل، وما دام الحال هو اللذة والألم عند الغزالي كما هو الوجدان عند علماء النفس المعاصرين بالضبط فمن الحق أن نعرف ما عند الغزالي عن الغرائز التي هي منابع الوجدان أو مسارح اللذة والألم لا سيما الغرائز القوية العريقة في القدم التي يحافظ بها الإنسان على حياته وينافح بواسطتها دون بقائه.
نقف الآن قليلاً لنشير إلى ما كنا ذكرناه في المقالات السابقة من أن نفسية الإمام الغزالي كانت سلبية بكل ما في السلبية من معنى وها نحن أولاء نرى هذه السلبية واضحة في