معرفته للغرائز البشرية ووصفه لها وتعليقه عليها، فإنه يقسم الغرائز إلى قسمين، منجية من نار جهنم ومهلكة بهذه النار، فمن الغرائز المنجية من النار الخوف والخضوع والانقياد وما يتبع هذه الغرائز من الرغبات في الفقر والزهد والقناعة.
ومن الغرائز الغضب والتغلب والسيطرة وما ينشأ عنها من الرغبات في الانتقام وحب الجاه والمال والشهرة والمدح.
ونحن ذاكرون هنا طائفة من الغرائز على الترتيب الذي اتخذه لنفسه في ذكرها لنرى أن الغزالي قد فهم الغرائز فهما علميا صحيحاً مع المعرفة بأنه أراد - كمرب ديني عظيم - أن يستعملها في خدمة عقيدته الدينية القوية ويقينه الإسلامي المستولي على قلبه ولنسمع الآن ما يقوله عن غريزة الخوف التي جعلها من الغرائز المنجية من الهلال، يقول:
(إن الخوف عبارة عن تألم القلب وإحراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال. فالعلم بأسباب لمكروه هو السبب الباعث المثير لإحراق القلب وتألمه، وذلك الإحراق هو الخوف، ثم إذا كملت المعرفة أورثت جلال الخوف واحتراق القلب، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب إلى البدن بالنحول والاصفرار والغشية والزعقة والبكاء، وقد تنشق به المرارة فيفضي إلى الموت، أو يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل، أو يقوى فيورث القنوط واليأس). أما فضل الخوف في نظر الغزالي كمرب فلأنه قامع للشهوات، يقول: لا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإن فضله بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات.
ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف. وكيف لا يكون الخوف ذا فضل وبه نحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى. وأما غريزة الغضب فيصفها الغزالي بهذا الوصف الدقيق البديع البارع يقول:(إن الله تعالى خلق الحيوان معرضاً للفساد في داخل بدنه وأسباب خارجية عنه) إلى أن قال (أما الأسباب الخارجية التي يتعرض لها الإنسان فكالسيف والسنان وسائر الهلكات، فافتقر إلى قوة وهمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته. فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده، اشتعلت نار الغضب وثارت به ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى