أعالي البدن كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب الإنسان على من دونه واستشعر القدرة عليه، فإذا صدر الغضب على من فوقه وكان من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب وبالجملة فقوه الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام. وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي بعد وقوعها والانتقام قوة هذه القوة وشهوتها، وفيه لذتها ولا تسكن إلا بها).
هذا وصف الغزالي لغريزيتي الخوف والغضب وهما من أقدم الغرائز وأقواها وافعلها في حياة الفرد والجنس، الأولى سلوكها سلبي والثانية سلوكها إيجابي وهو المقاتلة بغية الانتقام والتشفي وقد وضع الغزالي كل غريزة من هاتين الغريزتين الأساسيتين في موضوعها الطبيعي بالنسبة للحياة، بل بالنسبة لمن يستهدف الحياة.
ومن يستهدف الحياة مطلقة مجددة لا يطمئن إلا بالهرب من الأخطار والنجاة منها. وأما الغضب والمقاتلة فلا يخلو أمر الحياة معها من خطر مهلك ولهذا فقد وضع الغزالي هذه الغريزة على رأس الغرائز المهلكة.
ومهما يكن من أمر الغزالي في فهمه للحياة فإنه قد فهم الغرائز الحيوانية والطبائع الإنسانية فهما صحيحاً دقيقاً كما رأينا.