في ذات ليلة ردد الدير صوت دقات على الباب! فإذا رجل يدلف إلى الداخل؛ فتبين الرهبان من منظره أنه من المدينة، وانه من محبي تلك الحياة الصاخبة فاشتد عجبهم وقبل الصلاة والتماس بركات الأب الأعلى طلب الرجل بعض الطعام والنبيذ، فأتوا له بما طلب، وإذ سألوه عن سر قدومه إلى الدير، قص عليهم قصة طويلة. ذكر فيها أنه خرج للصيد فأمعن في السير أوغل في الصحراء حتى ضل طريقه، واهتدى إلى الدير. وإذ ذاك شرع الرهبان يرغبونه في البقاء معهم، بيد أنه أجابهم وهو يبسم:
- أنا لا أصلح لهذه الحياة
وبعد أن أكل وشرب، نظر حوله وتأمل الرهبان القائمين على خدمته ثم هز رأسه وقال: - أنكم أيها الرهبان ليس لكم غير الأكل والشرب، والصلاة والعبادة. فهل هذا هو سبيل الحياة؟ وهل بهذه الطريقة تريدون محاربة الشر والرذيلة؟ وانتم منزوون في هذه الصحراء؟. . . فكروا قليلا في وضعكم الحالي، فأنتم تقيمون بعيداً لا يشغل بالكم شيء تأكلون وتشربون وتمرحون، وتعيشون سعداء في حين يتردى سائر الناس في المهالك، ويتعثرون في طريق الرذائل، ويمضون وراء الشيطان ذلك الذي تحاربونه! ينبغي لكم أيها الآباء أن تمضوا إلى داخل المدينة، وتقفوا بأنفسكم على ما يحدث فيها. إنكم سترون الجائعين والمساكين إلى جانب الناعمين المترفين الذين يتهالكون على الرذائل والفجور! حتى لقد خمد في قلوب الناس نور اليقين فخلت نفوسهم من الأيمان! من المسئول عن هذا كله. ومن الذي يجب أن يرشدهم ويهديهم إلى السبيل القويم؛ أنا لا، بالطبع، فأنا مثلهم ولست ارفع منهم أبداً.
ارتفعت كلمات الرجل الغريب جارحة ساخرة. فأثرت تأثيراً كبيراً في نفس الأب الأعلى. فتغير لون وجهه وقال يخاطب الرهبان:
انه يقول الحق أيها الإخوان، فالواقع أن الناس هناك قد ضعف إيمانهم بالله، فانغمروا في الخطايا، فيجب أن أذهب إليهم واقوي إيمانهم واذكرهم بأقوال المسيح عليه السلام)
وفي اليوم التالي تناول الأب الأعلى عكازه وودع أصحابه وتلمس الطريق إلى المدينة؛ تاركا سائر الرهبان محرومين من شعره وموسيقاه وأحاديثه الطلية، فقضوا شهراً مملا مضجراً، ثم قضوا شهراً آخر دون أن يعود إليهم الأب الأعلى حتى كادوا ييئسون من