عودته، وبعد انقضاء ثلاثة اشهر ردد الدير صوت دقات الباب فهرع الرهبان إليه، وأحاطوه من كل جانب يسألونه ويستفسرون عن سبب تأخره ولكنهم فوجئوا إذ رأوه يبكي. . دون أن ينبس ببنت شفه! وكأن في وقفته وفي هيئته يبدو كأنه غاب سنين عديدة وانه عاد بالرغم عنه ولكن الرهبان لم يفطنوا إلى ذلك فبكوا لبكائه وترفقوا في التحدث معه، فإذا هو ينسل من بينهم، ويدخل صومعته الخاصة، ويبقي سبعة أيام فيها دون أن يأكل أو يشرب ودون أن يقطع عن البكاء. وكان طيلة تلك المدة يقابل توسلات الرهبان بالإعراض والصمت. بعد ذلك خرج إليهم وتوسطهم ثم طفق يروي لهم ما شاهد في المدينة، ووجهه يعبر عن حزن عميق قال لهم أنه حين فاق الدير صافح أذنيه صوت الطيور التي أنشأت تغني له وتتطاير حوله، فجاشت في نفسه أحلام الشباب وآمال الصغر، فراح ينظم الشعر ويغنيه. وهو يخال نفسه جندياً يذهب إلى معركة الفوز فيها مضمون لا شك فيه. حتى أنه لم يشعر بأي تعب عندما دخل المدينة. . .
وخفت صوته ولاح بريق الحنق في عينيه عندما أخذ يتحدث عما لاحظ في تلك المدينة، وقال أنه رأى ما لم يكن يتصور أبداً طيلة حياته. فقد بدت له قوة الشيطان بأوضح معالمها. . . وتكشفت له فتنة الشر وتوقف على ضعف الإنسان وحيوانيته وجنونه. . .
فقد دخل أول ما دخل المدينة أحد البيوت التي تعج بأوضع الرذائل! فرأى نحو خمسين رجلا يأكلون ويشربون بنهم شديد وإذا لعبت الخمر برؤوسهم أرتفع أصواتهم تضج بأغنية مثيرة الكلمات وقحة المعاني! فبدوا للراهب الزاهد كأنهم لا يخافون الله ولا الشيطان ولا حتى الموت! فيغرقون في المجون إلى أبعد حد ممكن.
حتى النبيذ بدا للراهب كأنه يبسم لابتساماتهم. ويضحك لضحكهم وانه يشاطرهم ذلك المجون السائر الوضيع. فقد كان يزداد إشراقاً ولمعاناً كأنه يشعر بالفتنة الكامنة في أعماقه. فلا بد أنه كان حلو المذاق لذيذاً؛ يسطع بالروائح الذكية.
استشاط الأب الأعلى غضبا وانقدت عيناه واستطرد يقول أن ثمة امرأة نصف عارية وقفت وسط أولئك السكارى تتضاحك وتتراقص وتكشف عما أمر الله بستره، وتبدي جمالها الرائع وكانت سمراء اللون ممتلئه الشفاه لا تعرف اسم الحياء ولا معناه تتضاحك في وقاحة كأنها تقول (أيها الناس لا تخجلوا، إن حجابي فريد في نوعه) ثم راحت تشرب الخمر