الفجر، ينهض من نوميه ليؤدي فريضة الصبح، ثم يعتمد فأسه ويذهب إلى حقله. ولم يكن الفتى مع عمله هذا الكثير ليغفل أداء صلواته، وإنما كان حريصاً على أدائها في أوقاتها، فكان سلوكه موضع إعجاب شيوخ القرية، يكبرونه أيما إكبار ويثنون على أخلاق اجمل ثناء؛ وكان سلوكه هذه نفسه موضع سخرية غيره من شباب القرية الذين فتنتهم زينة الحياة الدنيا، فكانوا ينقدونه مر النقد، ويبشرونه بالكهولة في غير أوان. ولكن الفتى لم يكن بفرح لثناء المعجبين، ولا يغضب لنقد الساخرين، وإنما يمضى في سبيله تلك التي رسمتها له المقادير ولم يرسمها هو لنفسه، والتي شاء أن تكون طاهرة طهر نفسه، نقية نقاء سريرته.
ولم يكن (إبراهيم) يجلس إلى أبيه إلا لماما، ولم يكن يراه في اغلب الأحيان إلا حينما يكون ذاهباً إلى عمله مع الصبح، ويكون أبوه حينذاك عائداً من حراسة القرية.
ولكن إياه لم يخرج ذات مساء إلى أزقة القرية ليشرف على أثاث العس في أرجائها. وإنما يجلس إلى ابنه وزوجه يأخذ معهما في أطراف الحديث ساعة أو بعض ساعة، يحاول الفتى أن ينهض بعدها ليستريح مما أصابه من عناء العمل، ولكن إياه يستمهله قليلاً ويخوض في الحديث عن (آمنة).
وآمنة هذه فتاة ممشوقة القوام، فائقة الحسن بارعة الجمال ساحرة العينين، طويلة الغدائر، يفيض وجهها حيوية وأنوثة مات عنها أبوها وهي صغيرة. وأمها قابلة بالقرية تتردد عل بيوت أعيانها في مناسبة وفي غير مناسبة، ولها من الجمال والفتنة ومن طلاوة الحديث وأوقاتها ما يشجع جارتهم وبناتهم على إطالة الجلوس إليها، واستزادتها من هذا الحديث الطلى الساحر
استمهل محمود ابنه إبراهيم قليلاً، وراح يخوض في الحديث عن آمنة ولم يكن هذا الحديث محبباً إلى نفس الفتى، ولم يكن الفتى يقبل عليه إلا بسمعه، أما قلبه فكان بينه وبين حديث أبيه حجاب صفيق.
قال الفتى وهو ينهض للنوم:(أكبر الظن يا أبتي أن بيني وبين الزواج أمد طويلاً، لأنني لن أتهيأ بعد لهذه المخاطرة، ولم آخذ عدتي بعد لهذه المعركة) فيجب أبوه وهو يضحك (لقد ظلمت الزواج يا بني إذ سميته مخاطرة، ورسمته في صورة معركة آن الزواج يا بني نعمة، ولا يمكن آن يكون إلا كذلك: