التي سحرته بجمالها الخلاب وبحديثها هذا لعذب الساحر فقد أصبحت السبل الآن أمامه ميسرة معبدة. ومن يدري لعله لم يفكر في زواج ابنه إبراهيم من هذه الفتاة إلا ليكون ذلك بابا ينفذ منه إلى قلب أمها لتكون زوجاً له في يوم من الأيام.
وتمضي الأيام كذلك، والأسباب متصلة جهاراً بين (آمنة) و (إبراهيم) من جهة، وفي الخفاء بينها وبين سعيد من جهة أخرى.
وبينما الجميع كذلك تتصل بينهم الأسباب، إذ بإبراهيم يهب إلى بيت (آمنة) ليقد لها هدية أعجبته، ويحدد مع أمها يوماً لزفافه، ويعجب إبراهيم لأمر آمنة في هذه الليلة، فهي معه على غير عادتها، وهي ترحب به فرخا مرحة، وهي تلطف في حديثها إليه وهي استمهله كلما أراد أن ينهض وهي تقدم إليه كوباً من شراب بتناوله فرحاً مسروراً إذا لم تكن آمنة قد عودته أن تقدم إليه هذا النوع من الشراب، وإنما هي (القهوة) تقدم إليه في كل مرة.
وما هي إلا دقائق معدودات إذ بآمنة التي كانت تستمهل الفتى قليلاً، تستحثه الآن على النهوض. وما لها تستعمله وقد نفدت مكيدتها وتحقق لها ما أرادت وأراد من تحب وتهوى ومالها لا تستحثه وهي تخشى أن يصيبه سهم القضاء وهو جالس إليها في دارها.
وينهض الفتى وهو يحس بألم شديد ويسعى إلى داره حيث كان الموت ينتظره، وتسأله أمه عما به، ولكنه لا يجيب إلا بهذه الحركات التي تدل على أن شيئاً يقطع أحشاءه، فهو راقد على سريره حينا، ويغادره حينا آخر، ليستلقي على الأرض ثم يتركها ليطمئن إلى صدر أمه، تطوقه بذراعيها حتى يفارق الحياة، أو تفارقه الحياة، وهو يقول (أن آمنة بريئة وفية لحبها، وإن أبي هو الآثم).
ويرتفع الضحى من الغد، ولا حديث لشباب القرية وشيوخها إلا موت هذا الفتى البريء الطاهر، الذي راح ضحية رخيصة لشهوة أبيه.
ويذهب محمود بعد ذلك بفتح لابنه باب القبر، وراحت الحكومة تفت لآمنة وسعيد باب السجن، وراح شباب القرية يبكون هذا (الشهيد) الذي سخروا منه بالأمس، كما راحوا ينثرون على قبره الأزاهير والرياحين.
وراحت أمه تنهض مع الفجر في كل يوم لتروى بدموعها قبر وحيدها شهيد القرية).