جبال لبنان الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط من شريفة، وكانت سنة إذ ذاك نحواً من ثلاث وثلاثين سنة، هذا الشاب هو السيد محمد رشيد رضا.
نزح هذا الشاب إلى مصر بعد أن حصل على قسط كبير من التعليم في بلده على يد بعض العلماء الأحرار المفكرين الذين اتصلوا بالسيد جمال الدين الأفغاني، وتفهموا شيئاً من مبادئه.
جاء إلى مصر كما يحي كثير غيره من أبناء الأقطار الإسلامية للإفادة من الأزهر الذي ورث سمعة كبيرة في العالم الشرقي، ولما اتصل هذا الشاب بعلماء الأزهر وتفقدهم لم يعم عليه الأمر كما عمى على كثير غيره، ولم يتحير أو ينحرف عن الهدف، ولم يطل به المقام حتى أدرك بنور بصيرته، وثاقب فكره، وطيب استعداده أن الشيخ محمداً عبده هو الضالة المنشودة، وأنه العلم المصلح الوحيد الذي يمكن الاستفادة منه، فعكف على ملازمته، وشغف بالسماع منه، في الدرس وفي غير الدرس، في المسجد وغير المسجد.
وبالرغم من كثيرة المستمعين للشيخ محمد عبده، وتفاوت درجاتهم في الذكاء والتحصيل، فإن أحداً منهم لم تعمل فيه آثار الشيخ أقوى مما عملت في السيد محمد رشيد رضا، فكانوا على ضروب وأنواع كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الخباري عن أبي موسى الأشعري، قال صلى الله عليه وسلم:(مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. . . الخ).
كذلك كان تلاميذ الأستاذ الشيخ محمد عبده. منهم من لم ينفع غيره ولم ينتفع في نفسه، لأنه مجدب الطبع، سبخ التربة، ومنهم من نفع غيره فنقل مبادئ الشيخ لغيره وأن كان هو لم ينتفع بها أو قل انتفاعه، ومنهم من انتفع في نفسه وعم نفعه غيره. فكان كالأرض الخصبة التي شربت من الماء وأنبتت الزرع فأفادت الناس.
والسيد محمد رشيد كان من هذا النوع الأخير، فقد حرص على أن يسجل آراء أستاذه التي يلقيها على الطلاب في الدرس، والتي تصدر عنه في المجتمعات، والتي يراسل بها أصحابه، أو يرد بها على مستفتيه في أمور الدين والدولة حتى صار شبيهاً بشريط تسجيل