ومع عظيم هناء هذا العمل الجليل الذي سجله السيد رشيد، والذي لولاه لذهبت آثار الشيخ عبده، وتبخرت أفكاره كما ذهب مع الريح كثير من آثار غيره من كبار علماء الأزهر، نقول مع هذا: إن هذا التلميذ لم يكن مسجلاً لأفكار شيخه فحسب، بل كان مع ذلك مناقشاً وممحصاً وموجهاً كما هو الشأن في التلميذ الذي كانت تعده العناية ليقوم برسالة شيخه بعد موته، وليكون امتداداً لحياته ووصياً على تركته الخالدة.
قال السيد رشيد يتحدث عن نفسه.
(إني طلبت العلم بوازع من نفسي لتكميلها بالمعرفة والعمل لا لأجل الانتفاع في تحصيل مال أو جاه، وقد عرض على الدخول في الحكومة أصحاب النفوذ فأبيت). وذكر في موضع آخر سبب ذلك فقال:
(أحمد الله أن حفظني من الابتلاء بالمناصب، ومن الامتحان بخدمة الحكومات، ومن فتنة حب المال والجاه، فإن أهون رزايا كل من هذه الفتن أن تصد عن قول الحق وتغرى بالسكوت على شيء من الباطل، وقد تبلغ بالمفتون أن يخذل الحق وينصر الباطل، ويوالي الظالمين، ويحارب المصلحين، وأن يبيع دينه بدنياه، بل قد يبيع دينه بدنيا غيره).
لكل ذلك مكث مدة عمره الطويل ثابتاً في الدعوة إلى الله على بصيرة، وإلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، بتفسير كتاب الله على طريقة السلف الأول، وإحياء سنة رسوله، وسيرة السلف الصالح. وهو في كل ذلك لم يعتمد على ملك ولا حكومة، أو جمعية، أو حزب، بل كان في كل أولئك ليس معه معين إلا الله، يكتب ويراجع ويحقق ويصحح ويتفقد الصحف والمجلات المحلية والخارجية، ويتصفحها كل يوم فإذا وجد ما لا يصح السكوت عليه بادر عليه في المنار أو الصحف الكبيرة، كالأهرام. والمؤيد. والمقطم. واللواء.
كل ذلك كان يقوم به وحده. فحقاً إن السيد محمداً رشيداً كان أمة، ولعلك تدهش إذا علمت أن كل هذه الأشياء من إخراج المنار بإتقان ومثابرة بضعة وثلاثين عاماً، وغير ذلك مما تقدم من صنع رجل واحد، فإنه عندما جاور ربه حاولت هيئات كبيرة وجماعات محترمة أن تخرج للناس مجلة تسد فراغ المنار فلم يستطع أحد منهم على كثرتهم.
وإذا علم أيضاً أن العقبات التي طالما وقفت في طريق المصلحين وهي كثيرة. من عبودية