الناس لما يألفون، ومن حب الشهوات الذي يغري المترفين بالراحة والدعة، والصد عن المصلح. - وكثرة الجماهير دائماً جاهلة تجري وراء صاحب المال أو السلطان - إذا علم أن كل أولئك صادفت السيد رشيداً، علم أنه كان يحارب وحده في ميادين كثيرة، يحارب قوماً قعد بهم استعدادهم عن اللحاق به، فصاروا بتأثير الغيرة والحقد لا يألون جهداً في محاربته. وأقوى أسلحتهم التي يبرزونها إذا عجزوا عن الحجة هي الرمي بالزندقة والإلحاد، وهي قذائف لا تكلف صغير النفس فاقد الحياء إلا أن ترسلها من فمه فتتلقفها آذان العوام فينصرفوا من حول الداعية.
وهذا سلاح قديماً حورب به الأنبياء والمصلحون. ألم يقل ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي، وقد ذاق البخاري والغزالي، وابن خلدون، وابن تيمية، وغيرهم مرارة ذلك ولكن كانت العاقبة للمتقين.
فخلد الله لهم لسان صدق في الآخرين، وأهال على خصومهم تراب النسيان. وكان السيد رشيد يحارب أيضاً في ميادين أخرى، زنادقة وملحدين، وجهلة مخرفين، وعلماء جامدين مقلدين، وسلاطين جائرين، وحاكمين ظالمين.
حارب كل هؤلاء في ميادين فسيحة، كان أفسحها مجلة المنار التي أتخذ منها منبراً عالياً يدوي منه صوته في جميع بقاع الأرض، في جاوة، وسومطره، والهند، والصين شرقاً، إلى أوربا وأمريكا غرباً، فلم تبق في الأرض بقعة فيها مسلم أو من يعرف العربية إلا دخلها المنار. فكان المنار مدرسة تتلمذ فيها عدد كبير من المسلمين ونبغ بفضلها رجال مصلحون ظهرت آثارهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبرز منهم في الصفوف الأولى رجال عظماء لهم في حركات الاستقلال الأخيرة في الأمم الشرقية مواقف مشهورة.
والذي يتتبع تاريخ هذا العالم الجليل يقف على سر نجاحه فيما عالج من أمور، ذلك أنه كان يحمل بين جنبيه قلباً قوياً، وعزيمة صادقة، وإيماناً لا يتزعزع، ووراء كل ذلك رغبة شديدة في إتقان ما هو بصدده.
والرغبة الصادقة هي سبب كل النجاح، لأنها الحافز على مواصلة العمل، والشعور باللذة فيه، والجد في إتقانه حتى يرضى بذلك نفسه.
ولما كان الحديث عن السيد رشيد لا يتسع له هذا المقام الضيق، فإني تارك الإفاضة فيه