وأكتفي اليوم بذكر حادثة واحدة وقعت لي أنا شخصياً ومعي ثلاثة من كبار علماء الأزهر؛ ذلك أنه في أصيل يوم من عام ١٩٢٤ ميلادياً زارني بالمنزل ثلاثة من علماء الأزهر، توفي اثنان منهم إلى رحمة الله، وبقي واحد؛ وبعد قليل خرجنا أربعتنا نسير نحو السيدة زينب، وبينما نحن في الطريق ذكر أحدهم حديثاً نبوياً فقال آخر أظن أن هذا ليس حديثاً، ولم يستطع الأول أن يثبته، وكنا وقتئذ قاربنا ميدان السيدة.
ولما كنت أعلم أن كثيراً من علماء الأزهر في ذلك الحين، خصوصاً الكبار منهم، كانوا يحيطون السيد رشيد بهالة من الشك في تدينه وعلمه، رغم أنهم لم يجالسوه أو يختبروا علمه أو حتى يكلفوا أنفسهم قراءة كتبه، أردت أن أحتال عليهم حتى يلتقي الجمعان، وكانت مكتبة المنار ومطبعتها بجوار السيدة زينب، وكان لي بالسيد صلة معرفة، فقلت لهم: يمكنني الآن أن أعرف لكم هذا الكلام أهو حديث أم لا؟ فتعالوا معي إلى مكتبة قريبة منا، وكانوا لا يعرفون أنها للمنار. فلما دخلنا من الباب الكبير أسررت لصبي من الخدم: هل السيد موجود بالمكتب؟ قال نعم. فقلت له: أستأذن لجماعة من علماء الأزهر. فرجع يحمل الإذن. فصعدنا للدور الذي فيه السيد، غرفة مكتب واسعة، محاطة جدرانها بالكتب المنضدة في خزائنها بترتيب بديع. وهو رحمة الله رابض على مكتب كبير يرتدي عباءة حجازية على قباء أبيض. فقابلنا هشاً مرحباً. وقدم التحية، فعرفوا عندئذ أنه رشيد رضا، فسكت لحظة حتى إذا أنس أصحابي نوعاً ما عرضت عليه الموضوع، فكان في لمح البصر جوابه: إن هذا حديث صحيح رواه البخاري في بين، باب كذا عن فلان، وباب كذا عن فلان، ورواه مسلم في باب كذا عن فلان بتغيير يسير هو كذا.
فلما خفت أن يخرجوا مرتابين في صحة ما يقول: تلطفت في سؤاله أن يعطينا الأجزاء والصفحات لنقرأ ألفاظ الحديث وتفهمها على مهل، فكان بالسرعة الأولى واضعاً الأجزاء بين أيدينا كأن الأحاديث كانت في طبق أمامه يلتقط منها ما يريد، فقرأنا الحديث في كل باب وإذا به كما قال: فوجموا ونظر بعضهم إلى بعض، وكان المغرب قد حلت صلاته فدعا بحصير للصلاة، وعزم عليهم ليتقدم أحدهم إماماً، فرجوته أن يصلي هو فأمنا، ووالله لا زلت أذكر وأتلذذ بتلك الصلاة وتلك القراءة، قرأ بخشوع وخضوع فبكى وأبكانا. ولما