جمع بين قلبها وقلبه، وبين طبعها وطبعه، وبين شعورها وشعوره. ومن أجل هذا كله كان يدفع إليها بكل كتاب يقرؤه، وكل مقال يكتبه، وكل أثر من أثار الفن يعلم أنه يلقى من نفسها هوى ورعاية.
أبدا لن ينسى يا دار هواه، يا من كنت وحي قلمه ومهبط إلهامه وحيث أمانيه. . . لن ينسى حين غاب عنك أياماً ثم ذهب ليرى أهلك في تلك الأمسية التي يسفر من بعدها صباح العيد:
لقد كنت يا دار واجمة، كئيبة، يمرح في جنباتك الصمت ويطبق السكون! أين يا دار من كانت تفتح له الباب وكأنها تفتح له أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها؟ أين. . . أين؟ لقد قالوا له إنها مريضة. . مريضة؟ وهرع إلى حجرتها مسلوب الوعي مرتاع الخطو ملتاع الضمير، وأخذ مكانه إلى جانبها وتناول يديها بين يديه، وألقى على الوجه الشاحب نظرة سكب فيها من ذوب قلبه كل ما ادخرته الليالي وحفظته الأيام. أما هي. . فلم تنطق بكلمة، لقد أطبقت شفتيها الذابلتين، وشع من عينيها بريق عتاب لونته الدموع!
وأطرق برأسه إلى الأرض برهة، وطوقت نظرته الذاهلة هنا وهناك كأنما تبحث عن الألفاظ الحيرى في ساعة اللقاء. . . واستطاع بعد جهد أن يجمع شتات نفسه ليقول لها: لا أدرى كيف أعتذر إليك. أحقا كنت غائباً وأنت مريضة؟ كيف بالله لم يحدثني قلبي؟. ألا تغفرين لي؟!
وأمام اللهفة الحرى والخشوع الضارع والصمت المبتهل غفرت له. . ويا لحظة الغفران كم خففت من وخز ضميره، وكم حملت من عبء عذابه، وكم قربت بينه وبين الله!!
ومضى يحدثها وتحدثه، ويا عجباً. لقد عاد إلى الوجه الشاحب إشراقه الفجر، وإلى الوجنة الذابلة نضارة الورد، وإلى النظرة الفاترة صفاء النبع، وإلى الجسد المنهك تدفق العافية! وقالت له وهي تستوي في سريرها جالسة: أنظر. . ألا ترى أن العافية قد عادت إلى بعودتك؟ فأجاب والفرحة الجارفة تهز كل ذرة في كيانه: لو كنت أعلم لزرتك قبل اليوم، ولما تركتك نهباً لعوادي السقم! ومضى يحدثها وتحدثه، ويقرأ لها وتصغي إليه، ويبني لها من قصور الأوهام ما شاءت فنونه وشجونه. كم أقام على دعائم الخيال عشهما المنتظر؛ الجميل الهادئ، ذلك الذي يملؤه الأطفال أنساً ومرحا وبهجة، وتملؤه حباً وحناناً ورحمة!