وهذا خليفة من خلفاء الإمبراطورية الإسلامية يزيد بن عبد الملك يقول (ما يسرني أنى كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز).
ومن هذا القبيل كثير لا يحصيه عد ولا يحصره حد. ولا يدع إذا ما امتهن الأشراف بعض المهن من الصنائع ونبذوا التجارة وراءهم ظهريا إذ في التجارة فقدان مروءتهم ومنافات الشرف الذي إليه يسعون. ونكتفي بالتدليل على ذلك يقول ابن خلدون في مقدمته صفحة (٣٩٥) ما هذا نصه وتحت عنوان (خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك). ثم يشرح ذلك قائلا (إن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء، ولا بد فيه من المكايسة ضرورة، فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها وهي أعنى خلق المكايسة بعيدة عن المروءة التي تتخلق بها الأشراف، وأما أن استزل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم من المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الإيمان الكاذبة على الأثمان رسما وقبولا فاجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف، ولذلك نجد أهل الرياسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما تكسب من هذا الخلق.). ولم يكتف ابن خلدون بهذا القدر بل ذهب في تأييد ذلك بمقدمته أيضا صفحة (٣٩٩) قائلا (قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح ولا بد من ذلك في المكايسة والمماحكة والتحاذق وممارسة الخصومات واللجاج وهي عوارض هذه الحرفة وهذه الأوصاف نقص من الذكاء والمروءة.
فلا يدع إذن من أن ينبذ الأشراف التجارة وراءهم ظهريا لما فيها كما قدمنا من فقدان المروءة وخلق غير خلق الأشراف وهم بنبذ البطالة أحرى وأجدر لما فيها من ذلة وحطة. فما عليهم إلا أن يتخذوا صناعة من الصناعات كي تدر عليهم الرزق وتكفيهم مؤونة العيش.