وغدا الفتى رجلا آخر غير من عرف في نفسه، فهو يتشوق لساعة الصباح في شوق ولهفة لينطلق إلى الشاطئ لا يمسكه الخجل ولا يدفعه الحياء، وهو يذرع الشاطئ في تبانه لا يبالي الأعين ولا يخشى الألسن؛ وهو يخلو إلى صاحبته ساعة من صدر النهار يكشف لها دوافع قلبه في حديث يفيض بالعاطفة ويفهق بالهوى لا يشوبه إلا ما كان يخشاه من أن تستشف من خلاله أنه زوج وأب ورب أسرة - وهو سره هو - فتنفر منه على حين أنه ضنين بها حريص على حبها؛ وهو يتأهب للقيا الحبيبة أصيل كل يوم فيقف طويلا أمام المرآة يستشيرها خيفة أن تقع الفتاة منه على ما يؤذي عينها أو يمجه ذوقها. وعرف الفتى - لأول مرة - معاني النظام والزينة الأناقة. . . عرفها لأنه عرف النشوة في الهوى والشباب.
وأحس الفتى - لأول مرة - أن في المرأة فنونا من الإغراء لا عهد له بها، فنونا من الدلال والأناقة والتطرية والعطر، فنونا صاغتها يد الحضارة الصناع في دقة وإتقان فوجدها جميعا في فتاته الشابة وافتقدها جميعا في زوجته الريفية التي حبستها التقاليد القاسية بين أسوار من العمى والجهل. ولمس في المرأة معاني أخرى حبيبة إلى نفسه، معاني غير الخضوع والاستسلام والضعف، معاني غير الجهل والسفه والحمق، معاني غير اللذة الرخيصة والشهوة الوضيعة. فهو يجلس إلى فتاته فتحدثه حديثا فيه الرقة والجاذبية، وتناقش الرأي في هدوء وتجادل الفكرة في هوادة، ثم هي تهديه إلى الصواب في لباقة إن غرب عنه، وتبصره بالحق في رفق إن عمى عليه. فوجد - بعد حين - فرق ما بينها وبين المرأة التي تزوج لتكون بعض متاع الدار، لا رأي لها في الأمر ولا قيمة لها في الأسرة ولا نصيب لها في الحياة.
ولصقت الفتاة بالفتى حين لمست فيه خصالا عزت على أترابه، فهو عف اليد واللسان، وهو رفيع النفس لا يستنزل إلى الدني من القول ولا ينحط إلى الوضيع من العمل، ثم هو رجل فيه الرجولة والإنسانية والشهامة. وراقها أن تراه طيب القلب هادئ النفس سهل الطبع، ولذ لها أن تجده يندفع إليها في غير صبر ويهفو نحوها في غير أناة، فصبت إليه ورضيته صاحبا ورفيقا، وقلبها يتفتح له رويدا رويدا.
وأنطلق الفتى على سننه والفتاة إلى جانبه تجذبه إليها في رفق وتسيطر عليه في هوادة