بالحياة، وشكّت في الإله، ثم آمنت به من بعد شك. ثم اعتزت بالحياة من بعد سخرية.
وهو لم يبحث في الإله وصفاته، أو في الروح وطبيعتها، أو في الجسد وعلاقتها بالروح، أو في الزمان والمكان، أو في ترتيب الخلق والموجودات، أو فيما شابه ذلك من أمهات المسائل التي تشغل بال الفلاسفة. بل كانت فلسفته من صنف آخر لا يقل جودة ولا ينقص عظمة ولا عمقا. حاول فيها أن يخفف من الآلام الإنسانية وعذابها، وأن يرشد الفرد والجماعة إلى الطريق السوي. وأن يرسم لهما مثلا أعلى يعملان من أجله. فلسفة بحثت في جميع أمراض الإنسانية فشخصت الداء وبينت مواضع الضعف. ثم أخيرا أرشدت إلى أنواع العلاج.
وقد عالج تولستوي سعادة الفرد وكيف يمكن تحقيقها، ووصف عيوب المجتمع الذي نعيش فيه. وبيّن سخافاته ومتناقضاته والطريق إلى علاج هذه المتناقضات. وبحث في الدين والعلم والفن وأخيرا في كل ما يمس المجتمع الإنساني وما يتصل بأفراد هذا المجتمع بسبب.
وسنحاول في هذه العجالة أن نطلعك على ناحية من نواحي فلسفته. ناحية حاول فيها أن يرسم للفرد مثلا أعلى. وأن ينهج له الطريق إلى السعادة التي ينشدها.
كل منا قد تساءل ما الحياة وما قيمتها؟ ولماذا نحياها هكذا؟ أخلقنا لنشقى أو عشنا لنموت؟
وكل منا مرت به ساعات من السخط على الحياة أو الابتسام لها. لا ندري لماذا نبتسم ولماذا نسخط؟
وكل منا يرغب في سعادة هادئة مطمئنة، سعادة لا يفوز ولم يفز ويظهر أنه لن يفوز بها! ومع ذلك فنحن دائبون في العمل لها. وهي دائبة في البعد عنا.
ومر بخلد تولستوي هذه الشكوك وانتابته هذه الحيرة وجرى وراء السعادة، فأقبل يرتوي من منهل الحياة: يعربد ويتهتك ويتمتع بكل ما حرم ولذ، ونال من الحياة ما لم ينله غيره.
فهو من أشراف الروسيا، له من المجد ما لهم، وله من العبيد ما يزيد على سبعمائة. وهو غني في غير حاجة إلى عمل يرهقه، أو رئيس يخضع له، والطبيعة وإن لم تزوده بوجه جميل، قد أعطته من جمال الروح ورقة العاطفة ما خفف من حدة قبحه، وقلل من بشاعة منظره، وتزوج فأخلصت له زوجته، وتمتع بأشهى ما تصبو إليه نفس من وفاق عائلي