على أنه لم يفز بالأمل المنشود. ولم يظفر بالسعادة ولا بظلها، بل كان ينتابه شعور بسخف الحياة وعبثها.
فهي إما ساكنة هادئة، ولكنها مملة جافة. وهي إما مضطربة هائجة، ولكنها مؤلمة قاسية. وهي في كل هذا سخيفة من دون معنى ولا غرض ولا غاية واضحة. أيعتزلها كراهب؟ ولكن أنى له الخبز الذي يملأ بطنه الجائع؟ وما قيمة حياة يعتزلها المرء؟ وأنى للإنسانية أن تعيش إذا قدر لكل فرد أن يعتزل العالم؟ وهل يجد الإنسان في العزلة راحة وهدوءا؟
أيحياها كما حيتها مئات الأجيال من قبله، وكما ستحياها من بعده؟ ولكن هذه سخافة لا تطاق. وما الذي يحمله على أن يتعذب ويتألم ويقاسي ليكون نعجة من نعاج هذا العالم يسمن ليذبح، أو يهزل ليمرض ويموت؟ أيعتقد في حياة أخرى ليست هذه الدنيا إلا مزرعة لها؟ وما يكون إذن معنى الحياة؟ أهي تجربة سخيفة؟ وماذا يمنعنا من اختصار هذه التجربة؟ ولماذا لا نسرع فنأتي على حياة بائسة لندرك أخرى أسعد منها أو أقل منها سخفا.
وأخيراً ما هي السعادة؟ وما الطريق إليها؟ أهي ثروة وضياع وجاه؟ ولكن تولستوي جربها فلم تبدد شكوكه ولم تشبع مطامعه بل أصابه منها ملل قاتل لا يدري كنهه، وسأم مروع زهده فيها.
أهي درس وقراءة واطلاع؟ ولكن تولستوي قرأ وقرأ أحسن ما أنتجه بشر، فلم ترضه هذه القراءة، ولم تضع حدا لشكوكه، وأخيراً ما فائدة الاطلاع والمعرفة والعلم؟
وقف تولستوي من الحياة هذا الموقف، وأخذ يفكر ويجهد نفسه في التفكير لعله يوفق إلى تعريف الحياة. وأخذ يقرأ لعله يصل إلى حل يطمئن إليه أو فلسفة يرضى عنها. ولكنه حاول عبثا وبدا له أخيراً أن الفكر وإعنات الروية لن يجديا شيئا. وتملكه يأس وأخلص فيه. ولكن ما لبث أن أشرق عليه نور جديد: نور الإيمان في الله، ونور الاعتقاد في الحياة وفي عظمتها. نور وهاج قوي يقف أمامه العقل خاشعا، ولا يستطيع العلم المادي بكل جبروته أن يجابهه أو يسخر منه!