للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بمنزلة الصناع والعملة، والقوة المفكرة له كالمستشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة؛ والغضب والحمية له كصاحب الشرطة، والعبد الجالب للميزة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، ودينه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى أنه لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة. كما أن الوالي في مملكته إذا كان مستعينا في تدبيراته بوزيره ومستشيرا له ومعرضا عن إشارة هذا العبد الخبيث مستدلا بإشارته في أن الصواب في نقيض رأيه وأدبه وجعله مؤتمرا له ومسلطا من جهة هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنضاره حتى يكون العبد مسوسا لا سائسا ومأمورا لا آمرا استقام أمر بلده وانتظم العدل في مملكته، فكذا النفس متى استقامت بالعقل وأدبت بحمية الغضب وسلطتها على الشهوات واستعانت بإحداهما على الأخرى، تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مغتصباتها اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها).

نرى فيما تقدم من القول أن الغزالي قد أدرك ببصيرته النفاذة وتأمله العميق هذا الشيء الذي سماه فرويد فيما بعد بالعقل الباطن إدراكا تاما، وعرف حقيقته معرفة صحيحة، واطلع على وقائعه وخفاياه إطلاعا واسعا حتى يخيل لنا ونحن نقرأ ما كتب الغزالي عن العقل الباطن وأسراره ومكوناته أننا نقرأ لفرويد أو أحد تلاميذه في القرن العشرين لا للغزالي في منتصف القرن الخامس للهجرة. ويبدو لنا جليا فيما سقناهالآنمن أقوال الغزالي أن الغزالي عرف جيدا أن العقل الباطن في الإنسان هو الإنسان نفسه بما فيه من غرائز قديمة وميول فطرية وعواطف كامنة ورغبات مكبوتة وذكريات مستقرة. وأنه المدرك العالم العارف، وأنه المخاطب والمعاقب والمطالب. وعرف جيداأيضاًالعقل الواعي وحقيقته وأنه ليس إلا العلم والحكمة والتفكر، وأن العلم والحكمة والتفكر بمنزلة المشير الناصح والوزير العاقل من العقل الباطن، وعرف الصراع العنيف الذي يكون بين رغبات العقل الباطن ورغبات العقل الواعي.

وقد وصف هذا الصراع وصفا دقيقا جميلا. وفوق هذا كله فقد أعطى قاعدة جليلة الخطر في التربية وتوجيه السلوك الإنساني وهي قاعدة الكف والتوفيق: كف الرغبات الضارة عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>