صريح قوله - (لا إكراه في الدين). . . فتقررت بذلك حرية العقائد بين البشر، ما دامت العقائد تحترم الحرية، وما دامت متحررة في طغيان الأوثان ومن قيود طاغوتها.
وقد كان محمد بن عبد الله، صاحب هذه الذكرى، خير قدوة للبشر في التحرر، وخير معاني أوضح معاني الحرية على حقيقتها، في التفكير وفي الشعور وفي النزوع، قولا وعملا. ولم يكفه هذا، وقد تحمل في سبيله أنواع الأذى والآلام، بل عقد النية على الجهاد في سبيل الدفاع عن حرية الإنسان، فهاجر هجرة الجهاد.
والجهاد، ليس هو، في حقيقته، مطلق الحرب والقتال! وإنما هو حرب في سبيل الله دفاعا عن مثل عليا، من حق وخير وجمال، الله جامعها. وهو قتال لا هوادة فيه، صونا للحرية من أن تشوه حقيقتها، أو أن يعتدي على قدسيتها طغاة الأوثان. فليس التعدي على حقوق الغير جهادا، وليس في الضغط على حرية الإنسان، في تفكيره وشعوره ونزوعه، وفي التعبير عنها، أي معنى للجهاد؛ وإنما هما قتال عدوان وطغيان أوثان!
فالجهاد الذي تغذيه المثل العليا، المتحررة المحررة، هو من المعاني الأولى التي تتضمنها هجرة الرسول العظيم وصحبه الميامين. فما وجدت في القرآن الكريم آية ذكرت فيها الهجرة، إلا ذكر معها الجهاد في سبيل الله. فقد ورد، مثلا في سورة البقرة، قوله تعالى - (أن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، أولئك يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم) وهكذا في سورة آل عمران والأنفال والنحل والحج. ففيها جميعها آيات بينات تقرن الهجرة بالجهاد وتنص دائما على أن تكون في سبيل الله، أي في سبيل المثل العليا، والله جامعها، لتحرير البشر من تحكم الاغيار ظلما واستعبادا!. . .
فالهجرة إذن هجرتان - هجرة جهاد في سبيل الله وهجرة سعي في سبيل الدنيا للذة والاقتناء. والنية هي قوام التميز بين الهجرتين. وقد أوضح ذلك نبي الهجرة في قوله - (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.
فليست هجرة السعي وراء الكسب أو العيش هجرة جهاد؛ وليست هجرة الالتجاء هجرة جهاد؛ وإنما تكون هجرة الجهاد بتبييت النية، وبالتكتل الصادق، والاستعداد الصحيح للدفاع