دخلنا المنزل ونحن جد مشوقين لرؤية الأديب الكبير، سألنا عنه أحد عبيد النزل فأشار إلينا ذلك العبد الذي يشبه فحمة الليل بطرف موقه إلى إحدى القاعات، فدخلناها، وما كدنا نضع أقدامنا في وصيدها حتى شدهنا وأخذنا بدهشة الداخل المرتاب، وما لبث أن هدأ روعنا عندما أبصرنا عصبة من الأدباء الذين نعرفهم متكوفين حول رجل ضئيل ضاو هزيل؛ وعلى مقربة منه من المسلمين عليه الدكتور إبراهيم الساطي المرحوم وهو سميه كما ترى، وكان من المعروفين بالبدانة وضخامة الجسم وثقله، فسألت الجالسين أين هو الأستاذ المازني؟ فخف من جانب الدكتور الساطي رجل نحيف قميء لا تكاد تحمله قدماه لنحافة جسمه تنم ملامح وجهه وبريق عينيه على ذكاء حاد وذهن متوقد، فمد يده مسلما علينا قائلا:
أنا ذا هو المازني بقضه وقضيضه، ونضه وفقهه، وعجره ويجره. فضحك من في القاعة حتى استلقوا على ظهورهم، فاستحييت ومن معي من الرفاق وتمنينا أن تملئ علينا الأرض، ثم انطوينا على أنفسنا وهممنا بالعودة من حيث أتينا ظانين أن القوم يسخرون منا ويهزءون بنا، فتورد وجهي الذي ما رأيته متوردا طوال معرفتي به من جراء هذه اللقيا غير المنتظرة؛ فأشفق علينا بعض الحاضرين وتلطف قائلا:
لا تخجلوا يا أخوان مما لقيتموه وسمعتموه، فهذا هو المازني كما تعرفونه، وهذا هو شأنه من الدعابة إن جدا وإن هزلا.
فكتمت أمرا في نفسي وأزمعت الانتقام بيد أني جلست أخيرا كاتما ما في نفسي مع الجالسين نسمع طرف الرجل الأدبية ونوادره. وإني والحق أقول ما رأيت - وسني سني - منظرا أثر في نفسي مثل منظره جالسا على يمين سميه الدكتور الساطي لنحافته وقصر قامته؛ وبدانة ذاك وضخامة جسمه. فسبحان جامع الأضداد وشتان في الأجسام ما بين الإبراهيميين.
جلست في الحلقة وكان فيها فرجة فطبقتها، وجعلت أحدق بالمحتفى به وأنا في شك من أمره. أهذا هو المازني بعينه صاحب خصاد الهشيم، وقبض الريح، والرحلة الحجازية، وخيوط العنكبوت، وإبراهيم الكاتب، وغيرها من المؤلفات والروايات الكثيرة والقصص