كان في ائتلاف عقله الواعي مع عقله الباطن ائتلافا تاما بحيث ترد على عقله الواعي خواطر عقله الباطن تواردا حرا فيوافق عليها عقله الواعي موافقة تامة، ويشترك في تنفيذها اشتراكا كاملا. ويدهشنا جدا التوفق بين رأيي الغزالي قبل ثمانية قرون ورأي (ينج) قبل ثماني سنين في الإلهام الذي هو سر العبقرية وروح البطولة.
وأما طريق الحصول على هذا الإلهام في نظر الغزالي فهي صعبة شائكة لا يقوى على سلوكها إلا من توفرت فيهم الأسباب لمثل هذا الأمر العظيم. وأما الطريق فهي أن يستعد الإنسان الراغب في هذا الأمر بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإرادة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار.
فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب؛ بل بتفريغ النفس من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الهدف وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بالانقطاع للهدف بالكلية وتفريغ النفس عن كل ما سواه، وبقطع الهمة عن الأهل والولد والمال والجاه والولاية حتى يصبح في حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه. ثم يخلو بنفسه ويجلس مجموع الهم ولا يفرق فكرة بالقراءة والتأمل؛ بل يجتهد أن لا يخطر بباله شيء سوى هدفه فلا يزال بعد جلوسه في خلواته ذاكرا بلسانه هدفه حتى ينتهي إلى حالة يترك معها تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثم يصبر على ذلك إلى، أن يمحي أثره عن اللسان ويظل قلبه مواظبا على ذكر الهدف ثم يواظب عليه إلى أن تمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة. ويبقى معنى الكلمة مجردا من قلبه حاضرا فيه كأنه لازم له لا يفارقه وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد. وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في نفسه.
ولا شك في أن هذه الطريقة التي ذكرها الغزالي للحصول على الإلهام هي الطريق التي تسلك أيضاً لإيجاد اليقين الذي يستولي على القلب. وعلى كل حال فهي الاستهواء الذاتي بعينه ولكنه من النوع القوي الذي يؤدي إلى ذلك الشيء الذي يسميه علم النفس الحديث بانقسام الشخصية.