للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حصول العلوم المكتسبة في عقل الإنسان بالتجارب والفكر، فتكون هذه العلوم المكتسبة كالمخزونة عنده فإذا شاء رجع إليها وحاله حال الحاذق بالكتابة إذ يقال له كاتب وإن لم يكن مباشرا للكتابة مع قدرته عليها وهذه غاية درجة الإنسانية. ولكن في هذه الدرجة مراتب لا تحصى بتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها إذ تحصل بعض العقول بالإلهام.

ولنصغ الآن إلى الغزالي يتحدث عن هذا الإلهام في الفصلين الكبيرين اللذين عقدهما على هذا الموضوع في الجزء الثالث من كتابه الجليل - إحياء علوم الدين - يقول إن العلوم التي ليست ضرورية وتحصل في العقل في بعض الأحوال تختلف الحال في حصولها؛ فتارة تهجم على العقل كأنها الغيث فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعليم. فالذي يحصل بغير طريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا. ثم الواقع في العقل بغير حيلة وتعلم واجتهاد ينقسم إلى ما لا يدري الإنسان كيف حصل له ولا من أين حصل، وإلى ما يطلع معه على السبب اذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب، والأول يسمى إلهاما ونفثا في الروح، والثاني يسمى وحيا، والأول تختص به الأولياء والأصفياء، والثاني تختص به الأنبياء. وأما العلم المكتسب بطريق الاستدلال فيختص به العلماء.

ولا بد هنا قبل أن نستمر في إيراد أقوال الغزالي من أن نبين أن الغزالي يستعمل في هذا البحث لفظة القلب بدل العقل، والعقل بدل العقل الواعي أو الشعور، واللوح المحفوظ بدل العقل الباطن أو اللاشعور، ولهذا فإننا نورد أقواله مع التصرف في هذه الألفاظ توضيحا للمعنى المقصود. يقول الغزالي. إن العقل مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الأشياء كلها وبحال بينه وبينها بأسباب تكون كالحجاب المسدل بين الشعور واللاشعور، وتجلى حقائق العلوم من مرآة الشعور يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها والحجاب بين المرآتين.

وقد ينكشف الحجاب عن عين الشعور فيتجلى فيها بعض ما هو منظور في اللاشعور ويكون ذلك تارة عند المنام وتارة في اليقظة. وانكشاف الحجب عن عيون الشعور ليتجلى فيها بعض ما هو مستور في اللاشعور يذكرنا برأي للعلامة النفسي الكبير (ينج) وقعنا عليه في تحليل له لبعض الشخصيات الكبيرة التي عرفها بذاته؛ وهو أن سر عبقرية ذلك الرجل

<<  <  ج:
ص:  >  >>