المسائل، فيقرءون أو يناقشون، والشيخ من ورائهم محيط بسر الكتاب، أو عليم بوجه المسألة، يقول فيستمع قوله، ويرى فيتبع رأيه. فهو حجة الوقت في علم الفقه وأصوله ما في ذلك خلاف.
ذلك علمه؛ أما خلقه فشذوذ في أخلاق العصر، ولعله كذلك شذوذ في أخلاق الدهر! فإن سلوك الطريق الذي نهجه الله، والوقوف عند الحدود التي أقامها الشرع، أمران لم يؤتهما الله إلا صفوة من عباده المخلصين جعلهم في خلال القرون أعلاما في مجاهل الأرض، ونجوما في غياهب السماء. حدثني أقرب الناس إليه أن شركة الترام بالقاهرة أهدت إليه وهو يتولى الإفتاء تصريحين مجانيين أحدهما لنفسه والآخر لتابعه. فأما تصريحه فالأمر فيه واضح، أغلق عليه الدرج لأنه يركب السيارة ولا يركب الترام، وانتفاع غيره به وهو مقيد باسمه حرام. وأما تصريح التابع فالأمر فيه مشكل! من التابع الذي يجوز له أن ينتفع بهذا التصريح؟ أهو الكاتب أم الساعي أم الخادم؟ الكاتب لا ينتقل من دار الإفتاء إلا إلى داره. وانتقال الموظف من عمله إلى سكنه ومن سكنه إلى عمله، انتقال خاص لا يدخل في حساب المصلحة العامة. والساعي والخادم لم يخطرا على بال الشركة طبعا حين أعطت التصريح في الدرجة الأولى؛ لأنهما بحكم العادة من ركاب الدرجة الثانية. إذن ليبق التصريح مصونا في المكتب لا تقع عليه عين، ولا تمتد إليه يد، حتى يأتي التابع الذي يستحقه.
وفي أحد الأيام أمر خادمه أن يشتري له بعض الأشياء من السوق، فلما عاد الخادم بما اشترى، وقدم إليه الحساب بما أنفق، قال له: لم لم تحسب أجرة الترام؟ فأجابه الخادم الأمين: ركبت بالتصريح. فقال له الشيخ وقد فار دمه من الغضب: وكيف تستحل هذا والأشياء لي والتصريح ليس لك؟ ولم ينتظر الشيح جواب الخادم وإنما نهض فركب في سيارته حتى نزل في شارع محمد علي؛ ثم وقف في محطة من محطات الترام وأنتظر حتى جاء أحد القطر فاشترى من (الكمسري) تذكرتين من تذاكر الدرجة الأولى ثم مزقهما وانصرف! وتستطيع أنت أن تعرف بالحدس ماذا فهم الكمسري وماذا قال الركاب!!
أليس هنا الخلق شذوذا في بلد لا تصبحك فيه الصحف ولا تمسيك إلا بخبر عن اختلاس ضخم، أو تزوير فاحش، أو سرقة فضيعة، أو رشوة فاضحة، أو خيانة عظمى؟