للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هذه الكلمة المشرقة إشراق الفجر، المحلقة تحليق الشعر، الهادرة هدير القمم، وجهها شاعر لبنان المبدع إلياس أبو شبكة إلى شاعرنا العبقري علي محمود طه بعد أن فرغ من قراءة ديوانه (زهر وخمر). . وكان ذلك منذ سبعة أعوام!

وقعت عيناي على هذه الكلمة، فأثارت في نفسي من الخواطر الحزينة ما أثارته ذكرى الشاعر الصديق. . ألأنها تصل اليوم بالأمس، أم لأنها تصور الواقع فتصدق، أم لأنها نفحة من نفحات الوفاء؟ قد يكون هذا كله مبعثا لتلك الخواطر الحزينة، ولكن الموجة الأولى التي غمرت شواطئ النفس بالأسى القاهر والأسف المقيم، هي أن أبا شبكة قد ودع الحياة فلم يملأ مكانه شاعر في لبنان، وأن علي طه قد فارق الدنيا فلم يشغل فراغه شاعر في مصر!!

مات شوقي هنا فقال الناس من بعده: لقد مات الشعر. . . قالوها وهم لا يرجون خيرا من الشيوخ ولا يعقدون أملاً على الشباب، لأن رفة الجناح الضخم عند شوقي وامتداد أفقه الرحيب لم يكن لهما في ذلك الوقت شبيه ولا نظير. أما الشيوخ فقد ظل شوقي طاغيا عليهم بشعره، مخمدا لأصواتهم بذكره، ساخرا من أصدائهم برجع صداه! وحين برز من بين صفوف الشباب شاعر جهير الصوت رصين الأداء شجي النغم، تطلعت إليه العيون وخفقت القلوب واشرأبت الأعناق. . كان علي طه في ذلك الحين لا يزال يشق الطريق؛ يشقه في قوة المؤمن وعزيمة المجتهد وأمل الواثق من بلوغ ما يريد. وكان الطريق تحت قدميه مفروشا بالصخور والأشواك: صخرة من حاقد، وشوكة من حاسد، وغمزة تنطلق من وراء لسان، وأخرى تنبعث من مداد قلم.

ولكن صيحات العطف والإعجاب كانت تغطي على صيحات الحقد والإنكار. . ومضى الزاحف المظفر وعيناه إلى الأمام، لا يلقي إلى الخلف نظرة، لأنه كان يؤثر ألا يمد عينيه إلى المتخلفين!

وكان الذين يغارون منه ويحقدون عليه، فئة من الشباب وحفنة من الشيوخ. . أما أولئك فقد راعهم ألا يسطع من بينهم غير أسم واحد، وألا يخرج من صفوفهم غير شاعر فرد، وألا يلحق به منهم لا حق في مضمار. وأما هؤلاء، فقد هالهم أن يملأ المكان الشاغر صوت ينبو على سمعهم لأنه صوت جديد، وجناح يشذ عن أفقهم لأنه منقطع الأواضر بالأمس

<<  <  ج:
ص:  >  >>