للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولو شاء العربي أن يرمز إلى الحياة الجامحة فإنما تكون نفسه أقرب ما يسعفه إلى غرضه، بل تكون (الناقة) أقرب إليه والى الحياة من نفسه؛ فهي محور الأرض والسماء، ومرصد الشاهد والغائب، ومدار القوي والضعيف، ومقياس الشرف والصفة، ورمز العافية والضياع. ولهذا كان اغلب التعبيرات العربية عن النفس مشتقة من الناقة التي هي سفينة الحياة. وطالما كنى بها العربي عن نفسه في كل مظاهر الشعور.

فكان العقل من قولهم: عقل البعير، والعقل والعقال ما يعقل؛ والعائلة هي العاقلة أي القبيلة لأنها تعقل البعير في أداء الدية عن المعتدي الأثيم من أفرادها. وما أبرع تورية النبي لصاحب الناقة إذ قال (اعقلها وتوكل)

والعربي يرخى لنفسه العنان كما يفعل بناقته ثم يأخذ شكيمتها ويكبح جماحها. ويزجرها عن هواها، ويثنيها عن غربها وشموسها ويأخذ بناصيتها، ويمتلك سنامها، وتميل نفسه إلى ولده متأثرا بحنين الناقة إذا طربت في أثر ولدها، وإذا أناخها فبركت، فإنما هي نفسه التي ينيخها فتبرك. وكذلك حين يسوقها ويقودها ويحثها ويحدو لها فهي ذلول لا شرود، ما دام في يده خطامها يشد عليها زمامها، فيلزمها غرز الفضيلة وتنص به في ركاب الفضلاء، رائدة الخير لها، ينتجه صادرا وواردا.

تلك هي حياة العربي الذي يتخذ من الناقة سفينة إلى معالي المثل ومكارم الأمور، حتى إذا نفض يديه من حطام دنياه لم يكن له فيها ناقة ولا جمل، لا تخدعه فيها خضراء الدمن.

ولعمري إن الإنسان الذي يتوصل إلى ما بلغه العربي من مجد لأحق بالتمجيد والتخليد، وحسبه شرفا أنه سلك كل وعر، وامتطى كل صعب، حتى ألان الدنيا لأرادته. فكانت طوع أمره، وراض بدنه لنفسه، وروض جوارحه للمعالي، فكان صاحب السيادة.

ومفتاح هذا الظفر أنه اتخذ من الجمل مطية لكل غرض؛ فأصبحت الحياة بسيطة لا تعقيد فيها، وصار من المألوف المعروف عنه أن يقول (فلان يتخذ الليل جملا).

وانه لمجتمع كريم ذلك الذي يدرك فلسفة الحياة في كلمتين هما:

(الغاية والوسيلة) ويدرك حقيقة البطل في صورة فيها الجسم الجميل، والنفس الكاملة، والغرض السامي.

ولا شك أن الألعاب العربية في هذا الغرض الذي أبديناه قد أوفت على الغاية، واختارت

<<  <  ج:
ص:  >  >>