للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والعلم بطب لدائه، ومن أمامه ألف شعاع من أمل وألف نزوة من كبرياء. ووقف بإزاء الطبيب يحدثه (وأنا - يا سيدي - أدخر ألف جنيه لا أضن بها على من يمسح على دائي فيحبوني بالشفاء، لأجد في الصحة متعة صبية صغار يترجون أباهم) وتحلب ريق الطبيب فلبس ثوب الثعلب وهو يقول (لا عليك، فهذا داء قريب البرء عاجل الشفاء).

واطمأن المريض لكلمات الطبيب. وأمسك الطبيب بالسماعة ليسمع دقات جيب المريض، ثم أمسك بالقلم ليكتب له الدواء الذي يؤجل الشفاء ويمد في عمر الداء.

واطمأن المريض إلى العلاج الذي لا يغني ولا يشفي، على حين قد عمى عن يد الطبيب وهي تتسلل إلى جيبه في دهاء ومكر لتستلبه ميراث أبيه ووفر عمره. وأحس - بادئ ذي بدء - أن الصحة تسري في عروقه وتتألق على صفحة وجهه فاطمأن وهدأت جائشته، ثم ما لبث أن شعر بالخور والفتور والضعف توشك جميعاً أن تعصف بهمته ونشاطه وشبابه، فأنطلق إلى الطبيب يستعينه على الأمر ويبذل له الوفر، غير أن الطبيب أمسك بالقلم - مرة أخرى - ليكتب له الدواء الذي يؤجل الشفاء ويمد في عمر الداء.

وربط المريض حبله بحبل الطبيب الذي أخذ يختله عن صحته وماله، ووصل سببه بسببه فما ينطوي عنه إلا ريثما يعود إليه، والطبيب ينظر إليه - في كل مرة - بعينين فيهما معاني الضراوة والفتك، يرى مريضه يتهاوى تحت ضربات المرض الجاثية فلا ينبض قلبه برحمة ولا تخفق روحه بشفقة، ثم لا يجد في نفسه إلا معاني الأرضية الوضيعة تتوثب في شره تريد أن تفترس أو تلغ في الدم، فراح يستلب مال الرجل المسكين لينقض بيت أو تتهدم أسرة.

وللطبيب في مهنته منطق يشبه منطق الذئب أمام الشاة: منطق القتل والسلخ؛ منطق الجزار يغمد المدية في نحر البهيمة ليشخب دمها بين يديه نضاراً خالصاً يستحيل إلى دار أو إلى عزبة أو إلى متعة تافهة.

والطبيب - في رأي الناس - رجل فوق القانون، لأنه يقتل بمشرط من القانون ويسلب بدهاء من القانون ويسرق بحيلة من القانون ويخدع بإذن من القانون.

وهو - في رأي نفسه - رجل بذل العمر والمال ليتعلم العلم الأرضي الذي يتلهف على المال ويمهد للمادة ويتداعى أمام الجنيه ثم هو - بعد ذلك - يترفع على الفقير والمسكين

<<  <  ج:
ص:  >  >>