المشورة والاستفتاء، ومن الطبيعي أن يراسل خلصاءه مستفسرا مستنبئا، فقد يجد لديهم الحل المريح في غير عناء، ومن المضحك أن المرء في أغلب أحواله - كمالك الحزين - يرى الرأي لغيره صادقاً بصيراً، وتتخطفه الحيرة فلا يراه لنفسه إلا بعد مشقة وجهد. وتعليل هذه الظاهرة سهل بين، فالإنسان - إلا من عصم الله - شديد الخوف على نفسه، يظن الريبة والخطر في كل ما يقدم عليه، فلا يكاد يخطو خطوة واحدة حتى تتقاذفه الحيرة من سبيل إلى سبيل، لكن صديقه - في الغالب - أقدر منه ثباتا وعزما، فهو ينظر إلى المشكلة بعين الواقع، طارحاً ما يتراءى من الشكوك دبر أذنه، ولا نعني بذلك أنه قليل المبالاة بما يعترض الموقف من مصاعب، بل نفرض فيه اليقظة والحذر مع أعصاب هادئة وجنان مطمئن، وإن عاطفة (اعتبار الذات) لتمتد من الإنسان فتشمل ذويه وأصحابه، وتدفعه إلى المشورة السديدة والمساندة المخلصة، فأولى بالعاقل أن يلجأ إلى أصحابه على البعد، يبثهم النجوى، ويبسط أمامهم المشاكل، وأولى بهم أن يسارعوا في إيضاح الغامض. وحل المشكل، فستدور عليهم الدائرة يوما ما، ويحتاجون إلى من يشاورونه ويناشدونه، وفي ذلك تخفيف مريح لما تمتحن به الإنسانية من ويلات، وإن مجتمعا يتضافر أبناؤه على البعد، ويتكتل أجناده تحت لواء التضحية والإيثار، لجدير أن ينعم بالأمن والاستقرار.
هذه خواطر خاطفة تجول بذهني من وقت لآخر حين أواجه بمن أعتقد فيه الوفاء والمودة، فأراسله محييا مكرماً، عقب صلة وارفة تفيأنا معاً ظلالها الوريفة حقبة طويلة، ثم أجد الفتور في الرد حينا، والتواني عن الإجابة حينا، وقد لا أجد رداً بالمرة، فأسأل نفسي في حيرة محزنة، أليس لهؤلاء نفوس تستعيد الذكريات، وقلوب تستشعر اللوعة، وعواطف يذكيها الشوق!! ثم أغمض عيني وأنهض للبارودي فأستمع قوله الحزين
فيا ساكني الفسطاط ما بال كتبنا ... ثوت عندكم شهراً، ولم يأتنا رد
أفي الحق أنا ذاكرون لعهدكم ... وأنتم علينا ليس يعطفكم ود
فلا تحسبوني غافلاً عن ودادكم ... رويداً، فما في مهجتي حجر صلد