والحال في الأعمال مثل الحال في الأقوال: فان الكاتب الذي يكتب كما يتكلم ليس بكاتب. إذ كل لغة من لغات الناس فيها الشريف الحر والرقيق الأنيق، كما إن فيها السوقي والحوشي والفج. والذوق وحده هو الذي يصفي العبارة من اللغو، وينقى الأسلوب من الغثاثة، كما يعزل الغربال الزوان والحصا من الحب الصحيح. ذلك ما نعقله ونقبله؛ أما نقل ما ترى وحكاية ما تسمع بما فيه من سماجة وفضول واقتضاب، على انه صورة الطبيعة ورسم الحقيقة، فتلك حجة يلجأ إليها الأدعياء ليدرأوا عن أنفسهم معرة الضعف في الاختيار والعىّ عن الابتكار والعجز عن التجديد والتوليد
بعد ما تقدم نستطيع ان نجمل القول في المأساة العصرية بذكر الفروق بينها وبين المأساة القديمة فنقول: إن الدرامة تجمع بين الجد والهزل والسرور والحزن والاحتشام والتبسط والضعة والرفعة، وتختار أشخاصها من كل طبقة وبيئة، وتقتبس موضوعها من حياة العامة او العصور الوسيطة أو العصر الحديث. أما المأساة فكلما علمت تزدري الموضوعات القومية والعصرية، وتختار موضوعاتها من الأساطير أو من التاريخ القديم، وتعنى على الخصوص بالعالم الداخلي من الإنسان، فتبحث عن أخلاقه وعواطفه واهوائه، فهي تضع على المسرح نفوساً بدل ان تضع اشخاصاً، ولا تعنى مطلقا بالرياش المسرحي ولا باللون المحلى، وتقصد كل القصد في تعقيد العمل الروائي؛ ولكن الدرامة لا تحفل إلا بالعالم الخارجي من المرء، والجزء المادي من المسرح، وتبالغ في رعاية الرياش والزخرف، وترجع التأثير في الحواس على التأثير في الذهن، وتحرص على أن تظهر الأشخاص في لباس الزمن الذي عاشوا فيه وتسمهم بعادات بنيه، وتؤثر تعقيد العمل وتحرج المواقف على وصف الأهواء وتصوير العواطف. ثم إن المأساة تخضع لقانون الوحدات الثلاث ولا تجيز نجوى النفس. ولذلك خلقت الأنجياء ليسارهم الأشخاص بما يفكرون؛ ولكن الدرامة تحلنت من سلطان الوحدات الثلاث فلم تبق إلا وحدة العمل، وأسرفت في إيراد النجوى على السنة الأشخاص الأصليين فياضة بالأسلوب الوجداني فقضت بذلك على الانجياء