الفكر، ويبنون هذا الرأي السخيف على قاعدتين خاطئتين: أولاهما أن كل جذاب من القول والفعل صالح للمسرح، وأخراهما أن كل ما أشبه الطبيعة جميل، وكل تقليد صادق لها حسن. لا أنكر إن لا شئ يلوع القلب ويمزق الحشا مثل أن ترى بيتاً متهدماً تسكنه امرأة كريمة عدا عليها الفقر ومسها الضر وجاز بها الدهر حد اليأس والفاقة؛ وأنا زعيم لك بأنك تغرق الناس بالدمع، وتضرم الأنفاس بالحزن، إذا عرضت على العيون منظر هؤلاء الأطفال يتضاغون من الجوع ويطلبون إلى أبيهم المسكين كسرة من الخبز وهو لا يستطيع، ومثلث دموع تلك الأم ترى رضيعها يلفظ أنفاسه في حجرها من السغب وهي لا تملك له حياة ولا نفعاً، ولكن ارني ذلك الشعب الغليظ الكبد الذي يلهيه ويسليه مثل هذه المناظر؟ وأية فائدة تجدها في هذا المصاب الأليم العقيم الذي فجع هذه الأسرة وهي لم ترتكب خطأ ولم تقترف اثماً؟ آلمني، ولكن لتعلمني كيف احتاط لنفسي من الوقوع في مثل هذا الضرر والذي اشهده. مثل لي أسرة بائسة أوقعها بين مخالب البؤس والفاقة عيب أصيل في نفسها، وهوى دخيل في قلبها، فان الألم الذي يتالني من رؤية هذا المنظر يعوضني منه ذلك الدرس الذي أستفيده من شهود ما يجره الهوى التحكم والعيب المتأصل من الأذى والمضرة: استفيد ان الإنسان حر في اتقاء مثل هذا المصاب، وان أسبابه من العيب والهوى والغفلة والضعف لم تكن أدواء لازمة ولا محتومة، أما الحرق والغرق والزلزال والوباء وكل ما يصيب المرء من غير كسبه ولا اختياره فلا استفيد من رؤيته غير الألم العقيم والهم الخالص
ان فضل الكاتب وجمال المسرح هما في عرضهما ما نود ان نكونه لا ما نحب أن نتأثر به. ومهما يكن الشيء العامي المبتذل مؤثراً فلا بد ان يكون على المسرح أسمى وأروع مما أستطيع أن أراه واسمعه من شباك بيتي، فان بين الأشياء المؤثرة كذلك تفاوتاً وتفاضلاً وتخيراً. وليس في الحياة موضوع يصح ان يكون روائياً بنفسه إذا قلدته على علاته ونقلته بجميع صفاته؛ فقد تجد فيه من الطول والفضول والنقص والسخف ما يخجلك إذا حكيته، ويأفنك إذا مثلته ان مهارة الكاتب القصصي في ان يجعل الموضوع طريفاً لذيذاً ومهارة الكاتب الروائي في ان يبسطه ويزخرفه فيحذف منه البارد الغث ويضيف إليه ما يزيد في تأثيره وحدته وجدته وطرافته بحيث يكون شبه الحقيقة وهيئتها لا صورتها ولا نسختها