للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ابتذلت أفنية الملوك، وعلت كلمة الشعوب، وغلب نظام الديمقراطية، احتقر الناس مصائب الخاصة، ورأوا أن الأهواء والأرزاء تنصب فخاخها لكل الناس، وان الواقع فيها من أي طبقة ومن أي بيئة يصح أن يكون عبرة ونكالاً لغيره. حينئذ اخذ الكتاب يدرسون العامة، ويعلمون الجمهور بتحليل نفسه وتعليل جرمه، ويثقفون خلقه بتصوير نقصه ووصف عيبه، فيحاربون العيب بالخوف من السخر والخشية من الخجل، والجريمة بالفزع من وخز الضمير الذي يصحبها والقصاص الذي يعقبها، والهوى بوصف ما يجره من الآلام والمخاطر والمصائب، ووجدوا الحال تقتضي نوعا جديدا من الرواية يلائم حال الاجتماع ونظام الحكومة ورقي الفكر، فكانت الدرامة وليدة هذا الانقلاب وسداد هذا العوز

على أن التأثير والجاذبية لم يكونا يوماً ما من أغراض المسرح في الأمم المثقفة المستنيرة، وإنما كان التمثيل عندهم كالخطابة، يجذب ليهذب ويعلم، ويؤثر ليقرر ويفهم. وما التأثير إلا وسيلة من وسائله لا غاية من غاياته. فالدرامة التي لا تعلم ولا تهذب تكون من المأساة بمثابة المهزلة من الملهاة. ولا شك إن المهزلة تضحك الجمهور اكثر مما تضحكه ترتوف والمستوحش، والدرامة التي من هذا النوع تبكيه اكثر مما تبكيه (سنا) و (اتالي)، ولكنه إذا ظل مائة سنة يضحك ويبكي لهذه المناظر، فأية فائدة يستفيدها، واية فكرة يكتسبها ويستزيدها؟

فالدرامة القوية هي ما وضعت في قلب الرجل علل حوادثه وبواعث عمله، فتجعله شقياً بزلته، مشفياً على الخطر بغفلته؛ وهي لذلك تطلب مؤلفاً يكون ثاقب الفكر صادق النظر قوي الملاحظة خصب المخيلة عميق الإحساس بليغ الأسلوب جيد الاختيار؛ وموضوعاً يجمع بين التأثير والإفادة وبين الابتذال والصيانة وبين الغرابة والسذاجة، فلا يكون عقيماً ولا سقيماً ولا سوقياً ولا شعرياً ولا متكلفاً؛ وعملاً يكون سيره نشيط الحركة موزون التدرج محكم التعقيد بارع الحل؛ وعادات حضرية أو شعبية تكون مع موافقتها للحق غير ساقطة ولا جافية؛ ولهجة بسيطة تلائم الأشياء والأشخاص، فتكون صحيحة سهلة نقية ذكية شاعرة لا تعلو على الموضوع، ولا تسفل إلى درك التعمل والركاكة. وتلك مطالب أعيت أولى القرائح الكليلة، فانصرفوا إلى الجانب الأسهل منها، واخذوا يلتمسون التأثير في الجمهور بعرض الحوادث المنتزعة من الحياة العامة لتغنيهم بفظاعتها عن إجادة الكتابة وإجالة

<<  <  ج:
ص:  >  >>