هذا، ومعنى الأبيات الثلاثة الأخيرة أن عبساً ويزيد حين حمى القتال، حدثتهما نفسهما بالفرار وهما في سورة نكبة كريهة مستأصلة، فدعوا - كعادة العرب في الاستغاثة والتداعي عند القتال - فقالا (بآل بكر بن وائل)، وقد عجلا فظنا أنهما يدعوان عشيرتهما، وبينهما وبين العشيرة (مسيرة شهر للبريد المذبذب)، إذ كانوا في خراسان كما قلت آنفاً، لا في ديار قومهما وكانت هذه الدعوة وسوسة من وساوس النفس الأمارة، فالعشيرة كلها كما يعلمان، علماً ليس بالظن، غائبة بعيدة، والقليل الذي حضر منها خاذل لهما مشغول بنفسه، إلا أنا، فإني حاضر لم أغب، وإذا دعيت فلا أخذل من دعاني. فإذا دعوا فقالا (بآل بكر بن وائل) فهما لم يدعوا أحداً سواي أنا وحدي
فكنت أنا الحامي حقيقة وائل ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي
فالبيت الثاني (وقد علما أن العشيرة كلها) بيان واعتذار عن كذبه في قوله: (دعاني يزيد. . . وعبس) وهما لم يدعواه باسمه هو، بل هتفا باسم عشيرتهم (بكر بن وائل) ومن أجل هذا المعنى قال البيت الأخير الذي بلغ به غاية الفخر بنفسه، وحق له. فقد كان سيداً شريفاً شاعراً، وكان أبوه حريث سيداً شريفاً شاعراً، وكذلك كان سائر أعمامه وبني أعمامه.
وفي البيت رواية أخرى جادلت عنها كتبي في هذين اليومين، فلم أهتد إليها لطول الترك والنسيان. وهي (وقد كانا على حز منكب). أي في ساعة نكبة شديدة. والحز والحزة اليسير من الوقت، لأنه من معنى الحز وهو القطع. يقولون:(على أي حزة أتانا فلان!) أي في أي وقت ضيق حرج أتانا! ويقولان: (جئتنا على حزة منكرة) أي في ساعة منكرة شديدة. (وكيف جئت في هذه الحزة؟). ويقول أبو ذؤيب، يذكر جفاف الماء في شدة الحر، وانقطاعه حين لا يطاق الصبر عنه
حتى إذا جرزت مياه رزونه، ... وبأي حز ملاوة تتقطع!!
يقول: في أي ساعة منكرة شديدة ينقطع الماء، حين لا يستطاع الصبر عنه! فهذه الرواية تؤيد تفسيرنا، وتنفي عنه تحريف التبريزي وانتحاله واختراعه واجتهاده وأرجو أن يفسح لي القارئ العذر في الإطالة، كما أفسح الناس لتخليط التبريزي والناقلين عنه.