وجدت بنفس لا يجاد بمثلها ... وقلت: اطمئني، حين ساءت ظنونها
وما خير مال لا يقي الذم ربه ... بنفس امرئ في حقها لا يهينها
أي حين خطر له أن يفر من حومة القتال
هذا أول سوء قصد التبريزي إلى المعاني. أما ثانيهما فما استخف من الفرح باجتهاده، حتى عجل فلم يقف على كلمة (حد) ولم يحاول أن يفهمها، إلا على الوجه الذي بدر إلى عقله، وهو الحد الفاصل بين شيئين. بيد أن العرب تقول:(حد الظهيرة) و (حد المطر) و (حد الخمر) و (حد الموت) وكثير من مثل ذلك، وتعني بالحد الشدة والبأس والصلابة والعنفوان. وقد قال موسى بن جابر الحنفي في أول كلمته التي ذكرناها آنفاً
وقد روى هذه الأبيات أبو تمام في حماسته، وشرحها التبريزي نفسه، فشغله الاجتهاد في إعراب (دونها) مرفوعة، عن تمحيص العبارة، وعن الوقوف على معنى (حد الموت)، وفر إلى النحو والعروض يسود الصحف بوجوه تأويلها. ونسى أن يفسر (حد الموت)، وهي سورته وشدته وتلهبه في المعترك وهذا هو المعنى الذي جاء في قول البعيث (حد منكب): أي سورة النكبة وشدتها في القتال، ولم يعن الحد الفاصل بين شيئين
وأما ثالث الثلاثة. فإنه عجل كعادته ولم يتثبت من معنى (على) في قوله (على حد منكب) فمعنى (على) في مثل هذه العبارة ينظر إلى معنى (في) أو (عند) ومن ذلك قول الحطيئة:
وإن قال مولاهم، على جل حادث ... من الدهر: ردوا فضل أحلامكم، ردوا
أي عند حادث خليل ينزل بهم. وكذلك قول الفرزدق
على ساعة، لو كان في القوم حاتم ... على جوده، ضنت به نفس حاتم
أي: في ساعة شديدة، لو شهدها حاتم لضن بالماء على أصحابه
ورحم الله إمام العربية شيخنا المرصفي، فإنه لم يعرج على سوء فهم التبريزي واستطالته في الدعوى، وقد قرأت عليه أبيات البعيث هذه أيام قراءتي عليه شرحه لحماسة أبي تمام. وقد جاء في المطبوع من شرحه عند ذكر هذا البيت:(على حد منكب) بفتح الكاف، مصدر ميمي من نكبه الدهر ينكبه بالضم نكباً: أصابه بنكبة. يريد، وقد أرهقهما العدو فبلغ منهما كل مبلغ)