للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بعد ما ساء ظنه وعبس) فتوهم أنه أراد (بعد ما ساء ظنه في)، ثم ازداد في توهمه فزعم مهاجرة كانت بين البعيث وصاحبيه عبس ويزيد، لكي تتسنى له المداخل إلى دعواه في تأويل الكلام على وجه توهمه واخترعه، ثم أثبته بقوله (يقال: فلان معي على حد منكب). وهو شيء لم يقله غير التبريزي نفسه، بالمعنى الذي فسره به، وكان من حيرته أن عاد في آخر شرحه يقول: (ويجوز أن يريد بقوله (بعد ما ساء ظنه) أي بعد تسلط اليأس والقنوط من الحياة)، وكأن الأول الذي فهمه الصواب وكأن هذا الثاني جائز على تمريض.

وأخطأ التبريزي فيما فهم من قول الشاعر (ساء ظنه)، وأخطأ أيضاً في هذا التفسير الذي قال إنه (يجوز) أن يكون من وجوه تأويلها. فالعرب حين تأتي بقولها (ساء ظنه) في مثل هذا الموضع، إنما تريد بالظن: ذميم الخواطر التي تخامر نفس المحارب حين يحمر البأس، إذ يحدث نفسه بالهرب والفرار حبا للحياة وحرصاً على الأحوال، فيرتكب أخلاق للئام والأنذال والجبناء في ترك المحاماة عن الأعراض مخافة الموت المطبق. فمن ذلك قول أشابة بن سفيان البجلي:

ومستلحم يدعو، وقد ساء ظنه، ... بمهلكة، والخيل تدمى نحورها

كررت عليه، والجياد كأنها ... قناً زاعبي، لم تشنها فطورها

فنهنهت عنه أول الخيل، إنني ... صبور، إذ الأبطال ضج صبورها

والمستلحم: من قولهم: استلحم (بالبناء للمجهول) أي روهق في القتال، واستوحش العدو من هنا وهنا. فهو يدعو باسم عشيرته، وقد حدث نفسه بالفرار. وهذا البيت هو نفس معنى بيت البعيث. إلا أن هذا قال: (بمهلكة)، والآخر قال: (وقد كانا على حد منكب) بفتح الكاف. وهو أيضاً ما قاله التبريزي أولا، ثم أخذه حب الاجتهاد، فظن ظنا خطأ جعله رواية للبيت، بكسر الكاف، ثم توهم وتصنع الاجتهاد، ثم ادعى ما ادعى.

بل لقد قال عروة بن الورد يتمدح بنصرته قومه (بني عوذ) حين اشتد القتال عليهم بمادان فقال:

تدارك عوذاً، بعدما ساء ظنها، ... بمادان، عرق من أسامة أزهر

يعني نفسه حين نصرهم، وقد أوشكوا أن يفروا عن أعدائهم.

ويقول موسى بن جابر الحنفي (عم البعيث صاحب الأبيات المذكورة آنفاً)

<<  <  ج:
ص:  >  >>