للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الكبير بينه وبين أبيه وأخوته وأقاربه من الرجال في الطول والضخامة والقدرة فيشعر بضعف أمام قوتهم، وبعجزه بالنسبة إلى قدرتهم، وبحقارته بالقياس إلى عظمتهم، ثم ينتقل هذا الشعور إلى عقله الباطن فيستقر فيه ويصبح هذا الشعور هو الحاكم المطلق والمتصرف الذي لا ترد إرادته ولا تعصى إشارته. ينتقل الطفل من دور الطفولة إلى بقية أدوار حياته. ولكن ذلك الشعور بالضعف والعجز والحقارة يظل مستقرا في عقله الباطن يوجهه لاشعوريا ويصرفه باطنيا فقد تراه وهو في شيخوخته طفلاً في سلوكه ينزع في سبيل الحصول على أهدافه نزوعاً طفلياً كالإقدام الشاذ الذي قد يتخذ شكل الاعتداء والتحيز، والإحجام الشاذ الذي هو النكوص والانطواء على النفس وتجاهل المشكلة والتردد والحيرة والذبذبة التي قد تنقلب قلقاً ووسواساً وحصراً نفسياً خبيثاً مما لا يعلم غير الله مداه في السلوك ومدة بقائه في النفس حتى تنحل العقدة (عقدة النقص) بأعجوبة فيشعر الشخص بقوته وقدرته وكرامته ويندس هذا الشعور في عقله الباطن ويتولى قيادته من جديد فيسيره تسييراً يتناسب مع رجولته وقوته وكرامته. يسيره لاشعوريا كما يقول الغزالي (بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية).

ولنرجع الآن إلى الأمثال التي يضربها الغزالي على صحة قواعده والشواهد التي يقدمها لشرح تلك القواعد وتقريبها للأفكار. يقول:

وإنما قلنا إن الأخلاق هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور ولحاجة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ. وإنما اشترطنا أن تصدر الأفعال بسهولة ومن غير روية لأن من تكلف بذل المال والسكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال خلقه السخاء والحلم، فالسلوك الصحيح عند الغزالي هو السلوك اللاشعوري. وبعبارة أقرب إلى الحقيقة هو السلوك الذي يكون ناشئا عن توافق بين العقل الباطن والعقل الواعي بدليل قوله ليس الخلق عبارة عن الفعل. فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل لفقد المال أو لمانع؛ وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل إما لباعث أو لرياء. وليس هو عبارة عن القوة إلى الإمساك والإعطاء بل إلى الضدين واحد. وكل إنسان خلق بالفطرة قادر على الإعطاء والإمساك وذلك لا يوجب خلق البخل ولا السخاء. وليس هو عبارة عن المعرفة فإن المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعاً على وجه واحد. بل هو أي

<<  <  ج:
ص:  >  >>