التفكير وسعة الاطلاع؛ أن يرفع الإيمان من (حضيض السذاجة إلى قوة التفكير العالي مما جعل المفكرين في الشرق والغرب يرون فيه المثل الأعلى للتفكير الإلهي والنور المبدد لروح الشك والتشاؤم. . .) وقد قال سارطون في هذا الشأن: (إن أثر الغزالي في العلم الإلهي أعظم من أثر القديس توما. . .).
درس الغزالي الفلسفة (. . . ولم يكن الذي حمله على دراستها مجرد شغف بالعلم بل كان يتطلع إلى مخرج من الشكوك التي كان يثيرها عقله. . .). ليطمئن قلبه ويتذوق الحقيقة العليا. وخرج من دراساته هذه وسياحاته وتنقلاته بكتب قيمة نفيسة أهمها كتاب تهافت الفلاسفة، وهو عمل عظيم لا يخلو من قيمة فلسفية إذ هو (ثمرة دراسة محكمة وتفكير طويل، يبين المسائل الكبرى التي كانت محل خلاف بين الدين والفلسفة. . .) مما يدل على طول نظر في الفلسفة ودراسة وافية لها. وقد بلغ فيه أقصى حدود الشك فسبق زعيم الشكيين (دافيد هيوم) بسبعة قرون في الرد على نظرية العلة والمعلول.
لقد وصل الغزالي من دراساته الفلسفية وغيرها إلى ما وصل إليه (كانت) فيما بعد، من أن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ولا كاشفاً الغطاء عن جميع المعضلات، وإنه لابد من الرجوع إلى القلب وهو الذي يستطيع أن يدرك الحقائق الإلهية بالذوق والكشف وذلك بعد تصفية النفس بالعبادات والرياضيات الصوفية. وهو بذلك حاول أن يخضع العلم والعقل للوحي والدين لكي يصل إلى الحقيقة العليا. وعلى الرغم من محاولاته إخضاع العلم والعقل للوحي والدين كان يمجد العقل ويرى فيه (كما جاء كتاب إحياء علوم الدين) منبع العلم ومطلعه وأساسه وإن العلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس وقد أتى بجملة أحاديث نبوية تشير إلى مقام العقل وشرفه.
والغزالي لم يأخذ بأقوال فلاسفة اليونان، بل كان يعرضها ويسلط عليها العقل فيخرج بنقد صائب ورأي عبقري. لقد اعترض على قول (جالينوس) اليوناني (. . . إن الشمس لا تقيل الانعدام) ويستدل على ذلك بأن الأرصاد لم تدل على أي تبدل في حرارة الشمس أو حجمها، وهنا يأخذ الغزالي هذا القول، ويرى فيه خطأ وخروجاً عن الصواب. فأرصاد القدماء ليست إلا على التقريب، والشمس قد تخف حرارتها وينقص حجمها دون أن يلاحظ الناس ذلك في مدة قصيرة، وعلى ذلك يخرج الغزالي برأي صحيح هو ما توصل علماء