ذلك بأن دعوة الإسلام ليس لها أن تنحدر إلى مخلفات الجاهلية فتقاوم الإساءة بالإساءة، وتقابل العدوان بمثله، وإلا كان دين الإسلام متناقضاً مع نفسه: يتنزى الدم من يديه، وتتساقط الأشلاء من بين شدقيه.
والحل الذي يستقيم مع روح هذا الدين هو (الهجرة) المرسومة في بدئها وختامها المليئة بمدخراتها للتاريخ إذا أعوزه الكشف عن مواطن العبرة، ومظن الفخار، وليس بدعا من الأحداث أن يهاجر محمد، فقد سبقه لوط إذ هاجر بأهله ونزل بهم بالمؤتفكة. ولكن ما أصعب الهجرة من المواطن المضيم.
فما بال محمد وتابعيه تهون عليهم مكة، وفيها بيت الله الحرام وبها الأهل والوالد؟ ألم يقف محمد في وسط لمجلس يوم خرج مهاجراً، والتفت إلى الكعبة فقال:(إني لأعلم ما وضع الله بيتاً أحب إلى الله منك، وما في الأرضبلد أحب إليه منك، وما خرجت منك رغبة، ولكن الذين كفروا أخرجوني).
وتهامس الأغرار: أنه قرار، واستدرك الدهاة: بل استنصار حقا، أنه بالأمانة خشية الضياع، لهذا قال النبي الرسول (من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من أرض استوجب له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم خليل الله، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم)، وحقا أنه استنصار للدعوة من أتباعها فيما وراء الحدود، ولكن هل سكنت ثائرة من قال أنه فرار، وهل أجدى دهاء القائلين بأنه استنصار.
وفر أبو بكر بدينه يعبد الله عليه بأرض اليمن، لولا أن أخذ ابن الدغنة له الجوار من (القارة) شارطين عليه أن يتعبد بداره ولا يستعلن، ولأن أبو بكر فقبل ورجع فإنني في داره مسجدا اخذ يصلى فيه ويقرأ القرآن وبرفع صوته، والبكاء يغالبه، والناس يتهافتون عليه مسلمين من كل صوب، فلما كلمه صاحب الجوار قال له: رددت عليك جوارك، ورضيت جوار ربي) وضربت قريش الحصار على شعب أبي طالب فلم يتمكن أهل النبي مع البيع والشراء والمصاهرة، وأضر الجوع بهم، ولا سيما بزوجته خديجة، وكادوا يهلكون من عند آخرهم، وبعد موت خديجة وأبي طالب اشتد الأذى، وأخذت المؤامرات تدبر في الظلام لاغتيال محمد.
هذا وهو ماض في سبيل الدعوة، لا يمل من لقاء الحجيج في المواسم، والاستكثار من