القبائل، بينما فراعنة قريش يحاربونه بكل ما يسعفهم به قلوب مريضة، ونفوس منحلة، ومفاسد مستحكمة، والأصنام أيما استبداد.
وما يكون لنبي السلام أن يهدم السلام، وما ينبغي لمنطق الغريزة المقاتلة أن تستثار فلا تستجيب، ولكن التسامي بها هو المطلب الكريم، والأمنية الكبرى، فما هو إلا أن تراكض المسلمون مهاجرين إلى يثرب تاركين المال والعيال، لم يجردوا سيفاً، ولم يتننكبوا رمحاً، بل تجردوا للسلام، إلى حين ينثلم السلاح في أيدي الخصوم، وحاشا لأهل الإيمان أن يطلبوا الثأر على نحو لا يشرف أقدارهم.
لهذا قال أبو أحمد بن جحش في هجرته:
فكم قد تركنا من صميم مناصح ... وناصحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن وتراً نائياً عن بلادنا ... ونحن نرى أن الرغاب تطلب
واجتمعت بدار الندوة نزعات إبليس بنزوات الجبت والطاغوت، وانطفأت في الحال جذوة التدبير، وأنقطع حبل التفكير، فما كان من أصحاب الفراغ، بل هو الشيء الذي لا تسعفهم الغريزة بما فوقه.
ولا أقل من أن يجد العدو مصرفاً للضغينة المكتومة فيما درن غرضه المأمول، أما إذا تركوا محمداً في وجهه إلى يثرب، فإن له بها أنصاراً، وإنهم لناصروه، وإنه لفاتح بهم مكة على أهلها عاجلاً أو آجلاً.
يا له من يوم! كلما تمكن من خيالهم وتحدى كيدهم، لا يستطيعون له صرفاً، ولا يزيدون معه إلا تضييقاً على محمد وتنكيلاً بمن سلك سبيله.
خرج صهيب الرومي بماله فخيره بين نفسه وماله، فهجر المال، وهاجر بالنفس، وربح صهيب على كل حال، وخسر هنالك المبطلون. وخرج أبو سلمة، ولما أرادت صاحبته أن تلحق به ومعها طفلها، خيروها بين ابنها ونفسها، فتركت فلذة من كبدها في أيديهم، وخرجت مؤمنة بأنه وديعة في يد الله، وفتنوا من فتنوا، وحبسوا من حبسوا، ولو لم يكونوا قد انشغلوا بهذا القليل لتبددت الهجرة تحت هاتيك الضغوط، ولفظت الدعوة آخر أنفاسها.
وأطلع الله رسوله على دار هجرته، فأخبر بها صاحبه أبا بكر الصديق الذي طالما كان يستأذنه فيستأجره النبي حتى أراد الله لهما (صحبة) في الهجرة الكبرى إلى الله، وأعد