أبوبكر ماله كله ليهاجر معه، وتواعد مع النبي على ساعة الخروج من ليلة الفارقة بين العدوان والأمان، الفاصلة بين الشر والخير المراد.
وتسجى على بالبردة الحضرمية الخضراء، ولزم حزب الضلال باب الدار، وسهدوا أجفانهم، وكدوا أذهانهم، فما هي إلا الخيبة التي لا بعدها، على الرغم من الصفوف والسيوف، وما هو إلا نصر السماء (وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
ولبثا ثلاثا بغار ثور، والطلب لا ينقطع، وكان أبو بكر يسمع القوم يتهامسون ويتخافتون، فيأخذ الخوف من كل سبيل، ولكن الذي أعمى بصائر الكفار عند خروج النبي من الدار هو الذي ضلل حدسهم وهو في الغار (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا).
وخرجا من غار الخفاء إلى نهار الجلاء، ومضيا على راحتيهما بين تصويب وتصعيد، وكلما رأى أهل البادية أبا بكر سألوه عن هذا الرجل الذي معه فيقول لهم في تورية صادقة (هذا الرجل يهديني السبيل)، فلما وصلا إلى الجحفة تحرك الحنين إلى مكة في جوانح نبي الوطنية، فتذكر ما كان من قريش معه وهو يدعوهما لربهم، ومن ثمة نزل عليه جبريل بقول ربه (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى نعاد).
ولم يمض على رحيلهما ثمانية أيام حتى أشرف النبي على المدينة فقابله أهلها، والبشر تندي به وجوه الرجال، وبالغناء تتجاوز دفوف الجواري، وبالشعر تتعالى الفتيان، وبالحراب تنوع ألعاب الأحباش.
والأنصار يتسابقون إلى خطام الناقة ويقول:(هلم يا رسول الله إلى المنعة والقوة) وهو يقول لهم (خلوا سبيلها فإنها مأمورة).
ولم تلبث إلا قليلا حتى أناخت، لا في (المنعة والقوة) ولكن في مبروك (الأمن) ومناخ (السلام) حيث المربد الذي لسهل وسهيل أبني عمرو والذي اختاره نبي السلام منذ الساعة الأولى له بالمدينة دار السلام.
وتفرق المهاجرون على دور الأنصار، ونزل النبي مع رحله عندأبي أيوب الأنصاري، واجتمع بهم جميعا بدار سعد بن خيثمه، وأعلن (دستور السلام) منذ اللحظة الأولى فقال: