قلوبهم قطعة من النقود!! وإنك لن تجد أديبا مرفها تقبل عليه الحياة مبتسمة، وتظله السعادة بجناحيها النورانيين إلا من هذه الطبقة. . .
أما الطريق الثانية فتلك التي تقود سالكها شيئاً فشيئاً إلى الموت البطيء. . تلك التي تجعله دائماً في عداء مع الحياة! تلك التي تحرمه مما تحل الرأفة للحيوان الأعجم من قوت ومأوى. . وما تستوجبه الطبيعة من رعاية! آه ما أقسى الظروف. . لقد عاهدت نفسي ألا أتحدث عن نفسي. . وأراني اليوم مرغماً على نقض العهد لأن الإناء قد فاض، وامتلأ صدري بما يشبه القيح!
أغلب الظن أنك تعرف قصة حياتي في مصر. . أو قل طرفا منها. وأغلب الظن كذلك أنك تعرف كيف كنت أكافح وحيداً قسوة الحياة الجارفة ومرارة الدنيا العبوس. . وكيف كنت أجهد جهدي لا لأستمتع بنعيم الحياة أو لأنال وطراً من عهد الشباب، بل أقنع بالكفاف لمواصلة دراستي الجامعية. . وكنت دائماً تتهمني بالنشاط. . عجيب أمرك والله!. . كأنك لا تعرف أن القلم مهما خط وسطر وملأ الصفحات فلا يفي بخط يسير من أعباء الحياة!! إذا تنزه القلم عن أن يكون مأجوراً، وأبى الضمير إلا أن يكون أبيض الجبين، وأخلص القلب للثالوث المقدس: الحق والعدالة والحرية!!
إنني لأذكر تلك الأيام والدموع تملأ قلبي؛ فقد كانت شديدة القسوة، ثقيلة الوطأة، عظيمة التكاليف. . وفي سماء حياتي الحالكة تسطع مصر الكريمة كنجم منور: فإنني مهما كنت قليل الحظ من الوفاء فستظل لمصر منزلة أعظم بها من منزلة، فقد أخذت بيدي من حيث نبذني وطني، وأشفقت عليّ من حيث لم أعرف من وطني إلا غلظة القلب، وخشونة الجانب!
وطني!. . تلك الأغنية الحبيبة التي كنت أرددها في ليالي السهاد. . وتلك الكأس التي تنعش روحي كلما أصابها جفاف الحياة. . لقد كنت أذكر وطني دائماً، وأجاهد لأرفع سمعته، وأعرف الناس بالشعب الذي أنا منه. . ومع ذلك فوطني شحيح عليّ، ضنين بكل ما يثبت أن العراقيين متساوون في الحقوق!!
وفي كل سنة أذهب إلى بغداد لأنال ما يقره القانون لي من حق كطالب علم، غير أن الأبواب تغلق في وجهي، ويحال بيني وبين حكم القانون، وأرجع إلى مصر خاوي الوفاض