هذا الشعر وحرارته مما يدل دلالة صادقة على تفجره من قلوب هائمة في بحار المعاني وأنهار المباني غير مقيدة بقيود الشعر الهزيل الكاذب الذي نراه في العصور المختلفة. وما أحسن قول محيى الدين بن عربي:
إذا حل ذكركم خاطري ... فرشت خدودي مكان التراب
وأقعد ذلا على بابكم ... قعود الأساري لضرب الرقاب
فهل تجد أيها القارئ العزيز أسهل وأصدق من هذا النظم الخارج من القلب ليعمل عمله في القلوب الميسرة لقبول الأنوار الإلهية؟
ولشعراء التصوف ذوق خاص، فهم يجعلون نصب أعينهم موافقة أشعارهم لروح الشرع الحكيم. ومن دقتهم في هذا السبيل إنكارهم الخروج عن المألوف شرعا وذوقا مثل قول القائل.
تمازجت الحقائق بالمعاني ... فصرنا واحداً روحاً ومعنى!
وأنشد ابن عربي الشاعر:
يا من يراني ولا أراه=كم ذا أراه ولا يراني
فقال له بعض إخوانه: كيف تقول إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال مرجلا:
يا من يراني مجرما ... ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعما ... ولا يراني لائذا
ويدخل في إنكارهم تحريمهم سماع قول المتنبي:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما أنشق جاز فيه موسى
أو كان للنيران ضوء جبينه ... عبدت فصار العالمون مجوسا
وقوله أيضاً:
أنا في أمة تداركها الله ... غريب كصالح في ثمود
أو أقول ابن هانئ الأندلسي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
وقد حكى أن سبب توبة أبي العتاهية عن الشعر أنه أنشد مرة: