فالتحرير (ليبيرالزم) في ثقافة الغرب المعاصرة عامة والأنجلو سكسونية منها على وجه الخصوص علم على الإصلاح في مجالات الاقتصاد والسياسة والصلات الاجتماعية ولانطلاق الفكري. وهذا يشمل الدين والحياة الروحية والنفسية، واتجاهات الثقافية الأنجلو سكسونية في هذه الآونة تقف التحدي لجوهر العناصر التي تضمن التكافل الاجتماعي. فالصراع الفكري في أوربا وأمريكا الآن يكاد ينحصر في توجيه السلوك الإنساني لا على أساس العقل كما شرحه فلاسفة القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عسر ولكن على أساس الغريزة والانطلاق النفساني (الفيزيولوجي والسيكولوجي) كما بشر به (ريجموند فرويد) وأتباعه من علماء التحليل النفساني والمدارس الفكرية والأدبية والفنية العديدة التي تأثرت به وتفرعت عنه، وكما تدعو إليه (هوليوود) وكتاب القصة الحديثة وبعض أئمة الفن في أوربا وأمريكا.
فإذا حق لحضارة الغرب أن تفتخر بأنها خلال القرون الأخيرة الماضية قد أسدت إلى تراث الفكر وانطلاقه من قيود الجمود والبلادة العقلية فإن هذه المثل الآن تواجه حملة عاصفة تدفع بالسلوك الإنساني نحو فلسفة بدائية في جوهرها ومضمونها تمجد الغريزة النظرية وتناقض العقل وهدوءه وحكمته فتستهوى بذلك الجماعات التي تعيش على الصحف السيارة ووسائل التسلية الرخيصة واللهو والمتعة ممثلة الأفلام والقصص الحديثة. هذه الألوان من الفنون والآداب التي تجد سبيلها إلى صميم العلم ومعاقله الراقية في كثير من بقاع الأرض منها العالم العربي؛ وذلك لأن هذه الدكتاتورية الفكرية التي تفرضها الحضارات الأخرى لا تقتصر على أنصاف المتعلمين، بل إن سلطانها يمتد فيؤثر تأثيراً فعالاً في الاتجاهات الفكرية والعاطفية لكثير من المثقفين الممتازين الذين يخلفون حضارات جديدة كما هو الحال في حاضر الثقافة العربية.
أحب ألا يساء الفهم في هذا الصدد. فالتعاون الفكري أمر لا مفر منه، بل في الواقع من الدعائم الجوهرية بناء الحضارات الحديثة أو إحيائها والنهوض بها. ولكن المشكلة ليست في مبدأ التعاون الفكري ولكنها في تفهم العناصر الجوهرية في الحضارات التي تفرض نفسها - خيراً أم شرا - على حاضر الثقافة العربية.